للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يستعينه على أمره ويستنير برأيه ويطمئن إلى نصيحته، وهو فتى ريفي يشفق على نفسه أن يجرفه تيار المدينة ويتهيب أن يعصف به لهو الحياة، فهو يرى في (البك) الأب والقائد والمثل الأعلى، وفكري بك يرى في عادل الابن والصاحب والصديق. وأنس واحد إلى واحد واطمأن إليه، فعادل ما يبرح يزور (البك) و (البك) ما يبرح يفتقد عادلاً ويطلبه فيلح في الطلب، يقيمه على بعض شأنه ويفتح له بابه وقلبه وذراعيه.

لطالما جاء عادل إلى الدار، ولطالما تحدث إلى إلهام في عطف، ولطالما جلس إليها يعينها على الدرس ولطالما قص لها الأقاصيص وأهدى إليها الكتب ولكنها لم تحس بما يدفعها إليه إلا في هذه المرة. أفكان ذلك من أثر شعورها بأنه أزال عنها الوحدة في الحديقة في عصر يوم من أيام الربيع؟ أم هو شعور بالعطف عليه حين لم يجد أباها فأراد أن يرتد في خذلان؟ أم هو التقدير والإجلال لمن وجدت فيه الحمى والعون؟ لا ريب فهي قد أحست في نفسها شعوراً غامضاً لا تعرف مأتاه ولا تدرك كنهه ولكنه يدفع قلبها صوب هذا الفتى.

وبدأت الفتاة تترقب موعد زيارة عادل في شغف وتنتظر مقدمه في شوق وتتأهب للقياه في زينة. ولكنها في سنها المبكرة ما تزال تجهل ما يضطرب في نفسها.

وانطوت الأيام والفتاة تأنس إلى فتاها، تهفو إلى مجلسه وترنو إلى حديثه وقلبها يزداد تعلقاً به وأخيلتها تحوم حواليه فهي تخلق الأسباب لتسأله فيجيب وتتصنع الجهل ليشرح لها درساً أو يحل لها مسألة، والفتى مطمئن إلى ما تفعل راض بما يجد، يرى فيه راحة قلبه وشفاء نفسه. غير أن الفتاة لم تستطع أن تدرك كنه ما تحس. هذه العاطفة المشبوبة تبعث فيها الحيرة والاضطراب وهي تكتمها فلا تتحدث بها إلى أمها ولا تبوح بها إلى أختها الصغيرة. وكيف تفعل وفي رأيها أن فتاها لا يبادلها عطفاً بعطف ولا إخلاصاً بإخلاص؛ وهي إن فعلت لا تأمن أمها أن تغلظ لها في الحديث أو تتهكم عليها بكلمات قاسية عنيفة. وأختها طفلة لا تفهم لغة القلب ولا تعي حديث الهوى، وهي لا تستطيع أن تحدث صاحبها بذات نفسها خشية أن يكون في شغل عنها فيحتقر خلجات روحها ويمتهن نبضات قلبها. وألقت بها هذه الخواطر في تيهاء مقفرة ثم قنعت بأن تستمتع برؤيته بين الحين والحين، وأن تسعد بحديثه بين الفينة والفينة، تروي ظمأ نفسها وتنقع غلة قلبها، والأيام تنطوي. . .

أما عادل فقد أحس بالهوى الجياش يتدفق إلى قلبه في غير هوادة ولا لين منذ أن رآها تثب

<<  <  ج:
ص:  >  >>