الإسلام)، تجدوا في فصل من فصوله تقريباً بعض الأبحاث التي تنم عن الترابط المتين الذي كان قائماً في تلك العصور القديمة بين تطور الحوادث السياسية وبين تقلب المعتقدات الدينية.
لا شك في أن الحروب كانت تلعب دوراً أساسياً في توسع الممالك وتكون الامبراطوريات: فإن ملك قطر من الأقطار يستولي على مدن وأقطار أخرى بقوة السلاح، ويوسع حدود ملكه عن طريق الفتوح العسكرية. غير أن نتائج هذه الفتوح ما كانت تدوم وتستقر، إلا إذا دعهما شيء من التفاعل والتزاوج والتلاقح بين معتقدات البلاد الفاتحة وبين معتقدات البلاد المفتوحة، وهذا التفاعل كان يأخذ أشكالاً مختلفة: تارة كان الاعتقاد ينتشر بأن آلهات جميع تلك البلاد لا يختلف بعضهم عن بعض إلا بالأسماء؛ فكان يصبح الملك ممثلاً لآلهة البلاد الفاتحة والمفتوحة على حد سواء. وطوراً كان بتولد الاعتقاد بأن إله الملك الفاتح هو الإله الأكبر. وأما آلهة البلاد المفتوحة فهي من أتباع ذلك الإله الأعظم. . . وعلى كل حال كانت هذه المعتقدات - وأمثالها من المعتقدات المتنوعة - تساعد إلى حد كبير على خضوع أهالي البلاد المفتوحة للحكم الجديد خضوعاً نفسياً، فكانت تقلل أو تزيل الحاجة إلى استعمال القوة والقسوة لإدامة ذلك الخضوع.
ولا أراني في حاجة إلى القول بأن أمثال هذه المعتقدات الدينية السياسية، ما كان يمكن أن تدوم بعد انقضاء عهود الوثنية القديمة، ومع هذا أرى من الضروري أن أشير إلى نظرية (سياسية دينية) سادت على الأذهان في أوروبا - في عهد تكوين الممالك - حتى القرن الثامن عشر: وهي نظرية القائلة (بأن الملوك يحكمون بتفويض من الله). ومما لا مجال للشك فيه أن هذه النظرية كانت بمثابة (الأصداء الأخيرة) لتلك المعتقدات القديمة التي شرحناها آنفاً.
وخلاصة القول أن الأبحاث التاريخية والاجتماعية تدل دلالة قاطعة على أن خضوع الناس إلى أحكام السلطات، لم يتيسر في بادئ الأمر - إلا بفضل المعتقدات الدينية.
ويظهر من ذلك - بكل وضوح - أن ما قاله ابن خلدون في مقدمته المشهورة، عن العرب في طور البداوة، لا يختلف عما يقوله العلماء والمفكرون والمعاصرون عن الأمم القديمة بوجه عام.