السراط السوي. وإذا كان المرء يناضل في ميدان واحد لا يعدوه، فقد كان هو يناضل (في آن واحد) في ميادين شتى. ومن ذلك أن يتصدى (موجهاً أو مجيباً أو معترضاً أو متحدياً) في أقطار مختلفة، وفي صحف متعددة، وقد تنكر خلال ذلك في أزياء، وادرع لكل ميدان بلبوس. فهو (أزهري المنصورة) حيناً، وهو (السهمي) حيناً آخر. ثم هو إن بالغ في التواضع (التواضع خلة لا تعدوه) أرسل ما يكتبه غفلاً من أية سمة، فيشاركه صاحب المجلة تكتمه معرفاً كلامه الذي ينم عليه بقوله:(لأستاذ جليل) أو بما هو من على شاكلة هذا التعريف. ثم هو جريء لا يهاب. إذا تعرض لأمر تخشى عواقبه نحى حجاز التواضع جانباً، وتبدى للخصوم باسمه وكنيته، شأن البطل المقدام لا يبالي أن يعرفه الخصم استهانة بخطره، وغلواً في الحفاظ والنجدة. فليرحمك الله أبا عبيده، لقد كنت أمة في رجل، وكنت رجلاً (نسيج وحده).
ليتك تعلم - يا قارئي الكريم - مبلغ اعتزاز ذلك الأديب الفذ بكتاب الله لطالما أجابني على كثير مما كنت أسأله عنه بآيات بينات منه. وهو يردف مفتخراً:(أرأيت أي كنز يحوي بين دفتيه هذا الكتاب؟ أو رأيت شبيهاً له فيما عبر بك من لغات (آشور وسريان وعبران)؟ هيهات! ولئن تحريت فما أنت بواجد! (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).
كان رحمه الله كثيراً ما ينظر إلى هذا الكتاب العظيم نظرة المشفق المحب ولسان حاله يستعيد قوله فيه:(يا أيها الكتاب المعجز، لقد هلك من يدرك فصاحتك، ويكتنه بلاغتك، ويقدرك قدرك، ويعطيك من خدمتك حقك. لقد هلك من كنت تتلو علهم آياتك فيدهشون، ويخرون سجداً وبكياً. وهل يعرف بلاغتك المعرفة البليغة، إلا عربي قح صليب، لم تشن ملكته العربية من العجمة شائنة، ولم تؤذ أذنه كلمة قلقة واهنة!! فسقياً لمثل هذا سقياً، وتعساً ونكساً وترباً وجندلاً لمن يبغي أن نضل، فنستحب اللغة المرذولة، على لغتك البارعة العذبة المضرية. . .).
ولن أنسى يوماً قدمت فيه إليه، فأقبل علي يحدثني بقلبه ولسانه عن دنيا العربية والإسلام. وينطلق شأن المؤمن المتفائل، يؤكد لي اندحار هذه العجمة في يوم (قرب ابانه)، وانطلاق لغة الضاد من عقالها لتنهض بأعباء الإنسانية، تؤدي رسالة الحضارة. وما فتئ يكرر بين حين وحين: (ولم لا يكون ذلك واللغة هي اللغة، والآباء هم الآباء، والابن مهما كان جاحداً