للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هنا وفي كثير من شعر أبي ماضي تلمس الصدق في الفن كما تلمس الصدق في الشعور، وحسب الشاعر المطبوع أن يعبر عن وقع الحياة على وجدانه فيصدق في التعبير، وحسبه أن تمر به التجربة الشعورية فيسجلها في صدق وأمانة، وحسب الناقد أن يقنع بمظهر الصدق الشعوري في تلوين الصورة، وأن ينشد بعد ذلك مظهر الصنعة الفنية في إبراز الإطار! أرأيت إلى التناسب النادر بين ضخامة اللفظ والمعنى والخيال في البيت الثاني، وإلى قوة الوثبات التعبيرية والنقلات الموسيقية في البيت الثالث؟ إن الإيقاع هنا يتعاون مع التعبير فإذا الشعور ينساب مع رنين الكلمات ويهتز تجاوباً مع درجات السلم الموسيقي: فالثم بروحك أرضها - تلثم عصوراً للعلى - سكنت حصى وترابا. . إن التوزيع الإيقاعي هنا أشبه بتوزيع الضوء في يد مهندس فنان!

وانظر إلى هذا التوزيع الممتاز مرة أخرى حين يخاطب (بردي) بهذه الهمسات:

روح أطال في السماء عشية ... فرأى الجمال هنا فحن فذابا

وصفا وشف فأوشكت ضفاته ... تنساب من وجه به منسابا

بردي ذكرتك للعطاشى فارتووا ... وبني الهوى فترشفوك رضابا

مرت بك الأدهار لم تخبث ... ولم تفسد وكم خبث الزمان وطابا

وإذا ما انتقل أبو ماضي من مناجاة (بردي) إلى مناجاة (شهيد ميسلون) نقلك معه من أفق إلى أفق. . إن صوته الهامس هناك قد بدأ يعلو هنا في نبرات قوية صاخبة، وكذلك موسيقاه. إنها لم تعد تلك الأنغام الهادئة الوديعة التي تنطلق من ناي أشبه بناي الرعاة، ولكنها تستحيل هنا أنغاماً أخرى تهز مسمعيك منها ضربات موسيقية عاصفة، كتلك التي تطالعك من (صوناته) لبيتهوفن قبل أن تشرف على الانتهاء:

إني لأزهى بالفتى وأحبه ... يهوى الحياة مشقة وصعابا

ويضوع عطراً كلما شد الأسى ... بيديه يعرك قلبه الوثابا

ويسيل ماء إن حواء فدفد ... وإذا طواه الليل شع شهابا

وإذا العواصف حجبت وجه السما ... جدل العواصف للسما أسبابا

هنا لون من الغناء، ولكنه الغناء الحماسي الملتهب الذي يتلاءم وشعر الملاحم، وهكذا يكون شعر: همساً في مواضع الهمس، وحرقاً في مواقف الحنين، وارتفاع نبض وجهرة صوت

<<  <  ج:
ص:  >  >>