البهنساوي بك قاض في التحقيق التجاري، والأستاذ أدهم (دعباس) بحكم وظيفته بوزارة المعارف، لا يترك صغيرة أو كبيرة لا يحققها، وكفى به أنه - في أكثر ما يكتب - نباش قلوب العظماء ومستحضر أرواح الخالدين في كتب التاريخ يسألهم عن اللمحة الخاطفة التي غفلت عدسات المؤرخين عن تسجيلها ليردها إلى حقيقتها ويضعها موضعها الصحيح، فكاتبان هذا شأنهما في حياتهما اليومية - أدبية عملية - قد لا ينحرفان في الترجمة عما اكتسباء من ضبط ودقة يوّجبهما حكم العمل، فضلاً عن حكم الفطرة الأصيلة الدقيقة.
إن الذقة في الترجمة والأمانة في النقل، وهما الخلتان اللتان تجمعان بين البهنساوي وأهدم في كتابيهما التوأمين، يفرق بينهما الأسلوب، فأسلوب القاضي إنما هو (تقريري) محض، في حين أن أدب القصة بعيد عن التقرير الفقهي والقانوني، وقد لمس الأستاذ خليل مطران هذا الموضوع لمساً رقيقاً في مقدمة الكتاب حيث قال (توخي ناقل أقاصيص مأثورة إلى لغة الضاد أن يجلوها للمطالعين مصورة بمثل التصوير الشمسي) وقال أيضاً: (ينبغي أن يكون الكلام متحركاً بحركات الحياة في كل حالة من متعدد حالاتها) بيد أن أسلوب أدهم أدبي مجنح، وقد حرص على المعنى وحافظ على جمال المبنى. أما الأستاذ البهنساوي فقد حرص أيضاً على روح الموضوع واحتفظ بجو المكان، وقد لزم كل منهما طبعه الأصيل.
عنى الأستاذ البهنساوي بتقديم قاصي قصصه وتمثيلياته وتعريفهم بترجمة حال وسير موجزة أراد بها أن يستوفي الواقف عليها ما يعينه على إدراك الكنه في تلك الأقاصيص، وتفهُّم الخصائص التي تمتاز بها كل منها في نوعها وفي بيئتها، إلا أنه أوجز كثيراً واكتفى بذكر سنة الولادة والوفاة. وإليك المثال في التعريف (وولوع (بول هيس) مؤلف قصة (الغاضبة) بالرحلات إلى إيطاليا هي التي أوحت إليه فنه). في حين أن الأستاذ أدهم عني ذات العناية، ورمى ذات هدف، ولكنه لم يوجز بل وقف في تعريف القاص الذي ترجم عنه، وفي التمهيد له بفلسفة القصة موقفاً لم يسبقه لمثله سواه من المترجمين.
قال يترجم لكاتب ألماني: (وكتابة جاكوب فاسومان لم تتسم كما يبدو بالإشراق والصفاء والاتزان، وإنما تمتاز بالجدية والصرامة والقوة، فلا يطالعك من صفحاته الروض الناضر، أو الصباح البسام، وإنما تشرف منها على الليل المدلهم والعاصفة العازفة، وهو لا يكشف لك عن حرية الإنسان وقوته، ومجده وعظمته، وإنما يريك مصارعة الإنسان لأحزانه