الأجواء القاتمة المحجبة، تلك الأجواء التي تخضع لأثر البيئة في مزاج الفنان. . . لقد كان رانزوني من أبناء مقاطعة يغلب فيها الضباب على الإشراق، ومن هنا انعكس الدور الذي عاش فيه بحسه على الفن الذي عاش بروحه، وما الفن كما قلت غير مرة إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور!
أما اللوحة الثانية فهي (الحصان الميت) لأبرع فناني إيطاليا في القرن التاسع عشر جيوفاني فاتوري. . . إن فاتوري لا يمكن أن يسمو بظلاله وألوانه إلى مقدرة رانزوني، ولكنه يبزه ويتفوق عليه في مجال الفن التعبيري. إن مزية هذا الفنان تتركز في ريشته التي تنقل إلى الورق أدق ما في الحياة من لمحات؛ نظرة واحدة إلى لوحته الفريدة تنبئك بأن هذا الرجل الواجم المطرق الملتاع، لا يملك من دنياه غير هذا الحصان الملقى تحت قدميه. . . هنا وجه معبر تطلق الريشة من قسماته أعمق معاني اليأس والألم والدموع! هل تعرف دي لا كروا في دقة تعبيره؟ إن فاتوري يذكرك بهذا الفنان!
تعال بعد ذلك لنتأمل هذه اللوحة الثالثة (حنان الأم). . . إن مبدعها ترانكيلو كريمونا يمتاز بالجمع بين موهبتين: التلوين والتعبير. أما التلوين فطريقته فيه تختلف عن طريقة زملائه، ' ن ألوانه على القرب متداخلة، باهتة، تمتزج فيها الأضواء بالظلال ولكنها على البعد شيء آخر. . . إنها تبدو لعينيك متناسقة، مشرقة، متميزة ببراعم التصميم! أما في مجال التعبير فإن هذه اللوحة تذكرك بلوحة أخرى لرفائيل هي (العذراء والطفل). . . إن كريمونا يكاد يقترب من رفائيل في تصويره لأسمى معاني الأمومة في نظرات السيدة العذراء، وفي تعبيره عن أرفع معاني البنوة في نظرات السيد المسيح!
وقف طلايلاً أمام هذه اللوحة الرابعة، إنها (الهجوم على عربة الحشائش) لحامل لواء المذهب الواقعي في إيطاليا فيليبو باليتزي. . . إن هذا الفنان يمتاز بالحساسية المرهفة؛ الحساسية التي تطبع أعماله الفنية بطابع الحركة الجياشة المتدفقة. تمثل هذه اللوحات عدداً من المواعز يهجم في نهم بالع على عربة محملة بالحشائش. . . أنعم النظر في وثبات المواعز وفي تلك النشوة المنبعثة من عيونها وهي مقبلة في ثورة الجوع على غذائها الحبيب، لتلمس كيف يشيع باليتزي الحياة والحركة في لوحته، وكيف يغرقها في جو من الواقعية التي تطبع الفن بطابعها القوي الصادق المتميز. . . إن الحركة في فن باليتزي