ومما هو جدير بالذكر أن ابن وكيع قد اعتمد على ذوقه الخاص في نقد شعر المتنبي، ولم يقتصر على سرد أقوال السابقين من النقاد، كما صنع غيره من المؤلفين، وإنما أجال نظره، وأعمل فكره، وأدار عقله في شعاب شعره، ثم عبر عن مشاعره وآرائه وأحاسيسه وأفكاره في قوة ووضوح وثقة واعتزاز؛ ومن هنا كانت نفاسة الكتاب، وسمو منزلته بين كتب النقد الأدبي.
وقد حرص ابن وكيع في كتابه على أمرين عظيمين: نقد الصورة الشعرية ومحاولة إصلاحها، والموازنة المفصلة بين المعاني التي يتوارد عليها الشعراء. فقد ضرب في هذين اللونين من ألوان النقد بسهام وافرة، وأتى فيها بما يعجب ويطرب، ويلذ ويشوق
قرأ ابن وكيع قول المتنبي:
بدت قمراً ومالت خوط بان ... وفاحت عنبراً ورنت غزالا
فلم ترفه الصورة الشعرية، لأن المتنبي قد أفسدها بإقحامه (العنبر) بين المشبهات التي شبه بها محبوبته، وهي القمر، والغصن، والغزال؛ فقال: وقوع (فاحت عنبرا) بين هذه التشبيهات التى هي أعضاء، قلة صنعة، وضيق عطن بما يليق في البيت، ولو قال (وماجت لجة) يريد ردفها كان البيت كله تشبيهات، وكان أحسن في صنعة الشعر؛ ولو جعل البيت بثلاثة تشبيهات فقال:(تثنى مائداً ورنت غزالا) لاكتفى بذلك.
وجميع البيت موجود في قول ابن الرومي:
إن أقبلت فالبدر لاح وإن مشت ... فالغصن مال وإن رنت فالريم
وقال البحتري:
فهي الشمس بهجة والقضيب ال ... نضر ليناً والريم طرفاً وجيداً
ويقرأ قول المتنبي:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكما
فعم صباحاً لقد هيجت لي شجناً ... وازدد تحيتنا إنا محيوكا
بأي حكم زمان صرت متخذاً ... رئم الفلا بدلا من رئم أهليكا
أيام فيك شموس ما انبعثن لنا ... إلا ابتعثن دماً للحظ مسفوكا
فلا يعجبه البيت الأخير لأنه لا يشاكل البيت الذي قبله، ولا تنسق به الصورة الشعرية