العرض وإذا ركب الأحياء قد انتقل في حركة نابضة إلى السطور والكلمات!
لقد كان توفيق الحكيم يعب الحياة عبا إن صح هذا التعبير ويوم أن كان بطل على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينية كان يطل من نافذة مفتوحة، هي نافذة الحواس المتحفزة للتقاط كل ما تقع عليه من صور في دقة ووعي وانتباه، وهذه هي الفترات المستيقظة في فن توفيق الحكيم. . . فترات مستيقظة نقلت عن كتاب الحياة سطورا فيها عمق وروح وأصالة، فإذا (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) نسختان أمينتان تغمض عينيك بعد الفراغ منهما لتبدأ الحياة سيرها في دروب النفس ومسارب الشعور، ولا بأس من أن تغمض عينيك فإن الصورة قد انطبعت على صفحة الفكر والخيال!. . . هذا هو الفن الرفيع حين يتصل بالحياة وحين يقبس من الحياة، ليعيدها إليك لوحة تكتمل فيها الزوايا وتأتلف الأبعاد.
في حي السيدة زينب جلس توفيق الحكيم إلى مائدة الحياة فتذوق من ألوان الطعوم ما شممت رائحته في (عودة الروح). وفي مدينة دسوق قضى فترة من شبابه وكيلا للنائب العام، يتحدث إلى الحياة وتتحدث إليه، حتى نقل إليك حديثهما ذلك الطلي النابض في (يوميات نائب الأرياف). . وفي مدينة النور قدمت إليه الحياة كأسا غير الكأس وسقته من رحيق غير الرحيق، وكان مذاق هذه الكأس الجديدة هو تلك الجرعة الملهبة في (زهرة العمر) و (عصفور من الشرق). في كل عمل من هذه الأعمال الفنية خامة قصصية تستمد نفاستها من هذا المعدن الممتاز الذي لا يخبو له ضوء. . . معدن الحياة!
ولكن توفيق الحكيم ينتقل من حال إلى حال. . . يغلق النافذة المفتوحة التي كان يطل منها على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه، وكأني به قد سئم ضجيج الحياة والأحياء! ولا بأس عنده من أن يرقب هذا المسرح الزاخر بالنظارة والممثلين من وراء هذه النافذة ذات الزجاج (المصنفر) الذي يحجب الرؤية عن الأنظار، ولكن هذا الزجاج (المصنفر) لا يتيح له الرؤية الكاملة لتلك الفصول المتعاقبة من رواية الحياة. . . وإذن فلا مناص من الرجوع إلى المخيلة في تمثل حركات النظارة والممثلين! وهنا مفرق الطريق بين عهد وعهد في أعمال توفيق الحكيم الفنية. . . فن يأخذ مادته من الحياة في فترة من فترات شبابه، وفن آخر يأخذ مادته من المخيلة في فترة من فترات ما بعد الشباب، ويسدل الستار