وقد أنكرنا أنفسنا وحقرنا ما عندنا وأعظمنا ما عند غيرنا وأخذتنا الرهبة والروعة من كل جانب. وكم زرينا على أشياء ورثناها وعرفناها، حتى أخذها أهل أوروبا وأعجبوا بها فنقلناها عنهم، ورضينا بها إذ رجعت إلينا من بلادهم، كما هجرنا الهندسة العربية في الأثاث وغيره، ثم حاكيناهم في الإعجاب بها فأخذناها بعد أن سميناها (أربسكا).
وكما أعرضنا عن سباق الخيل وضروب الفروسية والرياضة التي كانت لنا، ثم عكفنا على قمار في سباق يربِّي خيلا ولا ينشئ فرساناً. . . وأمثال هذين كثير.
والإنسان في هذا الضعف والخوف لا يصح له رأي، ولا تستقيم له طريقة. وكيف يصح الرأي إن لم يعتد الإنسان بنفسه، فيثق بعقله. ويعرف أن له كياناً واستقلالاً، وأن له الحق أن يأخذ يرد، ويستحسن ويستنكر؟
إن الحياة التي لا تشعر بنفسها، ولا تستمد قواها، ولا تستعين بمواهبها، لأشبه بالموت، لها صور الحياة وليس فيها حقائقها. . .
عظمت حيرتنا في التقليد على غير هدى، وقلقنا على المحاكاة على غير بينة، وضعفنا في هذا الاستسلام، والذهاب مع التيار، والتعلل بحكم الزمان وسنة العصر، وما حكم الزمان وسنة العصر إلا تعِلّة العاجزين، وعذر المفلسين، وإنما الإنسان الحق الذي يسير الزمان، ويخلق سنة العصر، ويرد الحادثات عن مجراها، ويسيرها على الطريقة التي يرضاها.
فلما ألفينا أفكارنا وحقرنا مذاهبنا، والطرق أمامنا مختلفة، والمذاهب ملتبسة، نزع كل منا منزعا ً، وذهب على ما تخيل مذهباً، فكان اختلاف الآراء في الجماعة، وتناكر المذاهب فيها، وكانت هذه الحيرة، وهذا القلق، وهذا الاضطراب.
ليتنا حين أخذنا عن غيرنا أخذنا الجليل والحقير، وحاكينا في الجد والهزل! وكم من الغربيين من قدوة صالحة، أسوة نافعة، وخطة حميدة. ولكن عظائم الأعمال لها وسائل من الكد والدأب واحتمال المشاق والصبر عليها. وللمجد مصاعد شاقة، وتكاليف مرهقة. وسفساف الأعمال هينة قريبة لذيذة يستطيعها كل من شاءها، ويهبط إليها من لم يكلف نفسه الصعود. فقد أسرعنا في هزل الغربيين ولهوهم ومظاهرهم، وشق علينا أن نضلع بكثير مما اضطلعوا به وعملوا له، في نظام محكم وخطة شاقة، ودأب لا يكل.