للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أعماق الضمير. إن الأسطورة تنبع من ضمير الشعب لا من رأسه؛ وتعيش كامنة في دمه وأحاسيسه. هي (ميراث) شخصي لكل شعب، لا يمكن نقله إلى ضمائر الشعوب الأخرى، كما يمكن نقل الثقافات إلى الرؤوس، بل كما يمكن أحياناً نقل الأعمال الأدبية التي تقوم على أسس وراثية كالأساطير.

لابد أن تعيش الأسطورة حياتها في تاريخ الأمة وضميرها، حتى يستسيغها ذوقها، وتنبض لها قلوبها.

لهذا لم يكن ممكناً أن يشعر العرب بجمال التراجيديا الإغريقية المستمدة في صميمها من هذه الأساطير، ولا أن تنتقل إلى تراثهم كما انتقلت الفلسفة، لأن الفلسفة تراث ذهني في الأغلب، والأسطورة تراث شعوري في الصميم.

هذه هي المشكلة. أما ما قلته من أن السبب الأساسي هو شعور العرب بحاجتهم إلى الفلسفة وإلى العمارة، وعدم شعورهم بالحاجة إلى الشعر. فهو نفسه يحتاج إلى تعليل! لماذا لم يشعروا بحاجتهم إلى الشعر؟ لأن شعرهم كان فيه الكفاية للتعبير الكامل عن حياتهم الشعورية الأصلية؛ ولأن الشعر الإغريقي لم تعش أساطيره في ضميرهم، ولم تندس في كيانهم لتصبح شيئاً غامضاً تائهاً كما كانت في كيان الإغريق!

هنا نجيء لمشكلتك أنت بالذات. بل لمشكلة جميع اللذين يجعلون الأساطير الإغريقية أساساً لأعمالهم الفنية؛ ولو كانوا من الأوربيين - المحدثين - على أنهم ورثة هؤلاء الإغريق -!

إن الأسطورة لا تعيش في دمائكم - وفي دمك أنت بالذات المصري بوجه خاص. إنها لم تنبع من ضمير شعبك. إنها لم تصاحب تاريخك. فكيف تنشئ منها أدباً له حياة؟

قد تقول: إنك تحسن عملك الفني على أساس يتفق مع طبيعة الأسطورة؛ بل مع طبيعة التراجيديا الإغريقية، وقد قلت ذلك. قلت: إن الشعور الديني هو أساس التراجيديا، وأن هذا الشعور عميق في حسك. فأنت تشعر بازدواج العالم ولا ترى أن الإنسان وحده في هذا الوجود.

ولكن هذا كلام عام. ألمح فيه تفكير الذهن ولا أتذوق فيه طعم الشعور.

إن الميثولوجيا الإغريقية مختلفة في طبيعتها عن المتبعين الأصليين لك كمصري مسلم. فلا هي تتفق مع الميثولوجيا المصرية ولا مع العقيدة الإسلامية الحديثة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>