إن المرمى البعيد الذي تهدف إليه الغرائز إنما هو بقاء النوع على مدى الأزمان. وتتخذ لذلك عدة وسائل: منها ملائمة البيئة، وهي غريزة سبق أن تكلمنا عنها في مقال سابق وتعرضنا إلى آراء (دروين) و (لامارك) و (اسبنر) فيما يتعلق بها. ونضيف إلى ذلك أنه كلما كان الحيوان أرقى كانت ملاءمته للبيئة أوضح وأكبر. وعلى ذلك فهي عند الطيور دائماً ملاءمة البيئة في بناء أوكارها من حيث طقس المكان الذي تعيش فيه وباختلاف الفصول في ذلك المكان. أما عند الحشرات فهي أقل وضوحاً. مثال ذلك ما شاهده (فرلين) في بعض أنواع الحشرات التي تبني بيوتها من الطين أو الصلصال، يقول (فرلين) إذا أدخل بعض التعديلات داخل تلك البيوت فإن بعض الحشرات لا تعيره انتباهاً وتستمر في حياتها كما لو لم يحدث شيء؛ ولكن البعض الآخر - وهو من نفس النوع - لا يحلو العيش ولا يطيب له المقام في هذه البيئة الجديدة فيعيد هندسة ويقدم ما قوض من أركانه مهما طال أمد التجربة ومهما كلفه من مشقة وعناء.
قلنا إن المرمى البعيد للغريزة هو بقاء النوع فهي في خدمة النوع أكثر مما هي في خدمة الفرد، ولو تراءى العكس في بعض الأحيان. والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما شاهده (فابر) و (فرلين) في هذه الحالة إذ تبين لهما أن إناث الدبور عند ما تدخر لصغارها الحشرات التي تشلها وقبل أن تفقس البويضات وتظهر الصغار إلى عالم الحس والوجود في هذه الفترة شاهد أن الإناث قد تجوع وتشتد بها غائلة الجوع إذ يندر الصيد أحياناً ويتعذر الطعام. وقد شاهدا أيضاً أن تلك الإناث تلف وتدور حول الفريسة المشلولة وتتلمسها في حالة عصبية. ولم يشاهد قط عنها أن التهمت ما نذرته لبنيها من طعام، فتؤثر بنيها على نفسها رغماً عما بها من خصاصة وحرمان.
غير أن (أشيل بوربان) في كتابه سيكولوجية الحيوانات المتوحشة يقول أن هذه القاعدة قد ينتابها بعض الشذوذ أحياناً، إذ شاهد بعد تجارب أجراها في بعض الحيوانات المتوحشة المأسورة لهذا القصد، شاهد بعض إناث النمور والأسود والدببة تتخلى عن صغارها يوم ولادتها وتنفر منها نفوراً تاماً، وسمى هذه الظاهرة الشاذة (بالغريزة الضالة) وقد عزاها غير إلى حالة مرضية تنتاب تلك الإناث. وقد يكون الأسر دخل في ذلك وشبهوها بما