وإذا بحثنا عن سبب شدة وطأة الآلام، وعنف وقع المتاعب على الإنسان، وجدنا أنه يرجع إلى أنه ينظر إلى الحياة نظرة ضيقة تنحصر في الحاضر دون المستقبل، وتقصر مطالب ذاتية عارضة دون المطالب العامة الدائمة، فإن لم يحرز ما يريد بأسرع ما يمكن، وفي أقرب فرصة، وبأقل جهد، يقلق ويضطرب ويظن بالحياة الظنون. وإن نزل فيه خطب جزع لضياع غنم عاجل لا يستفيد منه إلا شخصه. وإن خذل في تحقيق مآربه أحس بخيبة مرة تضايقه. وإن عاقته عوارض الحياة دب فيه اليأس والقنوط، بينما لو نظر إلى الحياة نظرة رحيبة تضم الحاضر والمستقبل، وتحتضن خير كافة البشر الذي لا يتحتم تحقيقه في الوقت الحاضر، إذ قد يتحقق في المستقبل القريب أو البعيد لما أكترث بما يقابله من أهوال، ولما حركت المتاعب كوامن أشجانه، ولا قدم غير هياب على تنفيذ كل عمل يراه ينفع الإنسانية ولا يرهب العذاب في سبيله، وكان على استعداد دائم لأن يتحمل المشاق طائعاً مختاراً، ويقاس الحرمان دون تذمر، لا يسأم النضال الطويل، ولا يثبط همته الفشل المتوالي، لأنه يدرك إن هذه الآلام ما هي إلا قرابين زهيدة فرضت على من يريد أن يحظى بالحياة في الذات الإلهية عن طريق تعميم ضرب من الخير الدائم بين الناس. فمن يرضى أن يعاني الآلام ليسعد البشر، تقوى عزيمته على تذليل كل عقبة تعترض هذه الغاية، وتهون عليه نفسه فيضحي بها في سبيل خير الإنسانية، ويسير سيراً حثيثاً نحو تلك الحياة الروحية التي لا يحس فيها المرء إلا بحقيقة فريدة لا مثيل لها، هي حقيقة اتحاد الخالق بالمخلوق التي يتمتع في كنفها بسعادة عذبة هادئة، ويتلذذ بغبطة حلوة تحيط الإنسان بهالة من النشوة والحبور، تدفع عنه مرارة الألم، وتحميه من تعس الأحزان.
فطلب الحياة في الله يصهر المعاني المألوفة، فيصبح السرور الذي تريد أن تنعم به مضنياً؛ لأن طريقه وعر صعب، كما يصبح الألم الذي نسقاه محبوباً لأنه يقودنا إلى إسعاد الغير، ويسوقنا إلى الاتحاد بالله. فمن يرحب بالتضحيات من أجل الخير العام المستمر، يعطي لحياته قيمة عليا ينمحي فيها الفوارق بين شتى المعاني التي يحياها عامة الناس، ويفقد السرور والألم عنده تأثيرهما المتناقص المتداول ويتساويان، ولا يتمايز بعضها عن بعضها بشيء لان التمتع بالسرور لا يحدث بدون مقاسات الآلام، والآلام هي الضريبة التي تمهد