عنها هؤلاء الآخرون من بني الإنسان! ولكنها مواقف كريمة، تتمثل فيها الرجولة الصادقة، ويطمئن إلها الخلق النبيل. وإنك لتسمع في (مجالس)، وتقرأ في صفحات (كتب)، الكثير عن (النجدة والحفاظ؛ فزيد يأنف الضيم والعار، وعمرو يأبى الذل والصغار) ولكنك حين تلتمس هذا ال (زيد)، أو تطلب ذاك ال (عمرو)، تجدهما - إلا أن تواتيك المصادفة العجيبة - قد تخلفا في زوايا تلك (المجالس) أصداء تتردد، وفي صفحات تلك (الكتب) مداداً تحتضنه سطور!!
أرأيت إذن إن الأعمال تقاس بمال يحوطها من ظروف، وأن الشاعر كان صادقاً كل الصدق حين قال:(وبضدها تتميز الأشياء)! إنك - من غير شك - قرأت قول الطغراني:
حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
ولكنني لا أخالك لقيت من عبث الأقدار ما يقفك ذلك الموقف الذي يجعلك تحس (بنفسك) ما يريده الشاعر من (حب السلامة)، كأن يخيرك بين أمرين إما الحياة، وأما الموت! وإنه لاختيار عسير، ندر أن تجد في الناس من يتردد طويلاً في الانحياز إلى أحد شقيه أو لعلك لا تعجب أن يختار (بنو الموت) شقه الأول، فهذا هو الذي يحتمله - على علاته - منطقنا الصحيح أو السقيم لست أدري! وهل عسيتك - إن أنت وقفت حيال رجل فر من الموت - أن تستهجن ما صنع؟!
وعل ذلك القياس نجد أن حب السلامة يتساوى فيه الناس جميعاً، ومن هنا يمتاز من يزهدون فيه، ويقدمون على الموت بملء اختيارهم، في سبيل غاية سامية، أو ثباتاً على مبدأ يعز عليهم أن يجاوزوا حدودهم. . وكذلك كان أصحابي الثلاثة، فقد أقدم أحدهم على الموت كما رأيت، لأنه أحب أن يقول فيفعل، وقال غيره (وهم كثيرون!) أبلغ من قوله، ولكنهم آثروا العافية، وهتف بهم (حب السلامة) فخفوا إليه راغبين مسرعين، كأنما أرهف مسمعهم لندائه شاعريتهم المبدعة، فسمعوه قبل أن يسمعه أحد سواهم. وسرعان ما انتشروا بين القاهرة وبغداد (ومنهم من جاز البحر إلى قبرص)، وجعلوا من هناك يحرضون الناس على القتال! ولكن ذلك الأديب المجاهد ثبت لا يبرح مكانه متجاهلاً (سلامته)، فبذل حياته ثمن ذلك التجاهل، وإنه لثمن لا يملك صاحبه أعز منه. يلجئون
وقد فعل رفيقاه مثلما فعله، إلا أنه لكل أجل كتاب! فهذا أحدهما تصبح قريته (قلقيلية) في