لا أراني مبالغاً حين أقول إن الصحافة المصرية تسف كثيراً وتسمو بنفسها قليلاً، وإنها لتعرف قوتها ومصادر هذه القوة، ولكنها تسيء استعمالها؛ فهي يندر أن تحاول رفع الجمهور إليها، ولا تتحرج من أنت تنزل إلى مستوى السواد الأعظم من الأوساط العاديين ومن أنصاف الأميين أو أنصاف المتعلمين، على حد قول المتنبي:
فيابن كروس يا نصف أعمى ... فإن تفخر فيا نصف البصير!
ولا أدري ماذا يرجى لأمة ثقافة جمهورها الأكبر من هذا النوع الرخيص؟ ولست ترى فيها أكثر من تفصيل أخبار الجرائم والخيانات والطلاق وصور الفتيات كاسية أو عارية، بلا أدنى مناسبة؛ وعلى الجملة كل ما يمكن أن يغري القارئ الفارغ باقتناء الصحيفة أو المجلة والإقبال عليها والتزود بما فيها. إن الله جميل يحب الجمال؛ ولكن الجمال معنى أوسع من أن يقصر على الوجوه المليحة المصنعة، والقدود الرشيقة الممشوقة؛ وإنه لإفساد لعقول الشعب، وتضييق لأفقها، وتشويه لمعنى الجمال عنده أن تلح عليه الصحف بهذه الصور التي يراها على كل صفحة تقريباً؛ ولا مسوغ لنشرها سوى الرغبة في الفتنة والإغراء!
أما البحوث فهي في الأغلب والأعم ملهوجة، أي مسلوقة غير ناضجة، والآراء التي تبسط خطيرة، تقل فيها الروية والتقدير السليم المنزه عن الهوى؛ وكثيراً ما ترى الرأي ينشر لا لأنه هو الصواب أو الذي حصل به الاقتناع، بل لأنه الخليق أن يعجب العامة ويرضيهم!
إننا نريد من صحافتنا أن تسمو بنفسها ولا تسف، وترفع الجمهور إليها ولا تهبط إليه، وتتقي أن تستغل الغرائز الساذجة أو تهيجها، وتتوقى المصلحة العامة ولو بشيء من التضحية، وتحترم المسئوليات، وتحرص على التثقيف - مع التبسيط - لا على التهريج؛ وتدرك إدراكاً صحيحاً عميقاً أنها أداة خير جزيل إذا أحسنت استخدام قوتها، وأنها تصبح أداة شر وبيل إذا أساءت هذا الاستخدام!!
هذه الكلمات القوية الملتهبة الصادقة الموجِّهة ليست لي؛ ولكنها للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (أخبار اليوم) منذ أيام. . . إن أروع ما فيها أنها تقرر الواقع في قسوة تخلو من التجني وعنف يسمو على المغالاة، ولكن أين كان المازني منذ زمان؟ ولماذا لم يتناول قلمه قبل اليوم ليعرض للمشكلة الخطيرة بالدرس والعلاج؟! وفيم كانت هذه الإغفاءة