للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وعزَّ عليَّ أن أحمِّلها بعض وزري، أو أن أشركها في هذا البلاء، فأطفئ فيها جذوة الشباب وأخمد فيها نور الحياة. وعزَّ عليَّ أن تتساقط أسفاً وحسرة، وأنا قد لمست فيها العطف والحنان في ساعة العسرة، فجلست إلى جانبها أحدثها: (ما بك؟) قالت: (لا شيء، إلا أن أراك تأسى على أمر تافه ضئيل). قلت: (لقد غالني أخي فسلبني مالي). قالت: (لا بأس عليك، فهو أخوك الأكبر، وهو منك بمنزلة الأب، وله عليك ألف حق وحق). قلت: (أفيذرني وحيداً عاجزاً يلتهمني الألم وتعصرني الفاقة). قالت: (آه، إن في السماء أموراً غُيِّبتْ عنا لتكون بلاءً للصابرينّ! وما أقسى فقر النفس!). قلت: (هذه فلسفة عفنة). قالت: (ولكنها فلسفة روحانية تذر النفس هادئة مطمئنة، فكم أخذت من أخيك بالأمس ثمناً لحصتك من الدكان). فسحبت جنيهاتي من درج المكتب في فتور، ثم ألقيتها بين يديها في صمت. ونثرت هي الجنيهات بين يديها تعدها وأنا أرمقها في سكون، ثم قالت: (الحمد لله، هذا شيء كثير). وعجبت أنا لقولها. ولكن نفسي اطمأنت حين أحسست بكلماتها تزيح عني عبئاً ثقيلاً يمضني ويضجرني. . .

وفاضت روح الإيمان والعقيدة على المبلغ الضئيل فملأته خيراً وبركة، وفاض نور المسجد على قلبي فغمره فاستحال اليأس القاتل إلى أمل واسع جيَّاش، وانقلب الفتور إلى نشاط يتوثب، وأحسست بالصحة تسري في عروقي، وانطوت الأيام فإذا جنيهاتي تصبح دكاناً يفهق بالبضائع من كل صنف، ورفّت السعادة على داري فأفعمتها بالهدوء والطمأنينة. . . ثم. . . ثم نسيت ما كان من أخي الأكبر.

أما أخي فظل يدل عليَّ بمال وصحته وأولاده حيناً من الزمان، ثم ضربته العلة وركبه السقام فانهدت قوته وذوى نشاطه. أفكان ذلك من أثر الندم الذي يتأجج بين جوانحه على أن غالني حقي وأنا مهدود القوة لا أستطيع أن أدفع أذى ولا أن أرد شراً؟ أفكان من أثر أكل المال الحرام وهو ينسرب إلى جوفه لظىً يتضرم؟ أفكان من عدل السماء وهو يجازي الشر بالشر ويدفع السيئة بالسيئة؟ من ذا يدري؟ ولكنه انطلق يطب لداءين: داء نفسه وداء جسمه. . . وثقلت عليه وطأة المرض فانحط في فراشه لا يبرحه، وانصرف عن تجارته فأغلق دكانه، وتسلل المال من بين يديه إلى الدواء والطبيب، وبدا على وجه زوجه سمات الجزع والقلق - بادئ ذي بدئ - ثم برمت به فهي لا تصغي إلى حديثه إلا في ملل، ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>