ومن هنا وجدت في العربية مفردات متنافرة الحروف أو ثقيلة على الأسماع، وكان البلغاء يظنونها معيبة في البلاغة غير أنها إذا جاءت في مواقعها الملائمة لها كانت من عرافين البلاغة ومن عيون الكلام. . .
ولقد عيب على الشاعر استعماله كلمة (النقاخ) في هذا البيت
وأحمق ممن يكرع الماء قال لي: ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرّد
مع أن الشاعر نال باستعمال هذه الكلمة توفيقاً عظيماً من البلاغة، لأنه أراد أن يهجو الماء تحدياً لمن نهاه عن الخمر، ولم يكن مناسباً لهذا الهجو إلا أن يطلق على الماء أبشع أسمائه.
والعجيب في هذه اللغة أن كل لفظة موضوعة فيها يمكن الوصول إلى معرفة السر في وضعها واختيارها، وما وضعت في العربية لفظة واحدة لمعنى من المعاني إلا لعلاقة رابطة أو بسبب وثيق. فإن الواضع العربي وضع مثلا لفظة (المضجع) لمعنى وضع الجنب على الأرض، ثم وضع نفس اللفظ لمعنى ميلان النجم للغروب، وأسباب ذلك أن النجم عندما مال للغروب شابه ميلان الرجل للنوم فأطلق عليه ذلك. ولما كان النائم المضطجع قاصراً عن كل عمل فقد قالوا: تضجَّع الرجل إذا قصر في الأمر، وأطلقوا (الضجعة) على الوهن في الرأي، لأن الرأي الواهن أشبه بحالة الراقد الذي لا يفكر تفكيراً سليماً. وأطلقوا لفظة (الضاجع) على الأحمق لأنه أشبه بالنائم لعدم إنتاجه لشيء من الخير والمصلحة، وكذلك أطلقوا هذه اللفظة على منحنى الوادي لأنه مائل كالنائم المضطجع، وأطلقوا لفظة (الضجوع) على السحابة المثقلة بالماء والبطيئة في سيرها كأنهم شبهوها بمن يريد أن يضطجع من ثقل وتراخ. . وهكذا الأمر في كل لفظة من ألفاظهم. . .
وليس للألفاظ المشتقة في العربية أصل لدى الواضع فإنه كان طوراً يبدأ الاشتقاق بالفعل وطوراً يبدأه بالمصدر وطوراً باسم من الأسماء، فمثلا على ذلك أنه أطلق اسم (الأسد) على الحيوان المفترس المعروف، وبعد حين احتاج إلى أن يصوغ منه فعلا فقال (أسِد) أي صار أسداً في بعض خصائصه. . وكذلك الأمر في سائر الألفاظ فإنها تنقسم في الاشتقاق إلى هذه الأقسام. وقد يضع الواضع المعنى المطلوب لأول مرة بصيغة الأمر ثم يشتق منه الماضي، أو بصيغة الماضي ثم يشتق منه باقي الأفعال؛ وربما وضعه بصيغة اسم الفاعل