ركناً بعيداً، وجلست أبكي - لم أكن وحدي في تلك الساعة. . لقد رأيت في يدك منديلاً صغيراً وأنت تحملين الطعام إلى أبيك في الليل!
ولم يكن في مقدورك أن تطيلي الصبر أو السكوت، ففي صباح اليوم التالي فاتحت أمي في الأمر - كان ذلك وهي تطهو الطعام - فعاتبتها عتاباً رقيقاً، فأنكرت يا مادلين وقالت إنني - أنا - قد اخترعت ذلك الشيء اختراعاً. .!
ولم تصف القلوب في تلك الساعة، فكان أن تشاجرتما من بعد كطفلتين، وكان أن انطلقت كل واحدة إلى غرفتها تغسل كبرياءها بفيض من الدموع السخينة.
كان اليوم التالي يوم الرحيل، فاستطاعت كبرى الشقيقات الثلاث أن تصلح بينكما، فتعانقتما عناقاً مؤثراً، وأبت أمي إلا أن ترتدي ثياب الخروج من وقتها وتصحبك أن وأسرتك الصغيرة إلى القطار.! أما أنا، فقد أوعزت أمي لإحدى الشقيقات أن تأخذني إلى (الإدارة) لتقص على قصة شائقة، حتى لا أفكر في اللحاق بك. كانت تعلم مدى تعلقي بكن فكنت عند (حسن ظنها) وهربت من الأخت الطيبة إلى الشرفة المطلة على الميدان الفسيح، ومن هناك جعلت أصغي إلى أصوات القطر الغادية والرائحة، متخيلاً إياك وأنت ترحلين إلى السودان!
مضت عليَّ أيام من بعدك قضيتها في ذكرى اليمة، كلما أتاني صفير القطار اغرورقت عيناي بالدموع، وكلما نظرت إلى غرفتك الخالية! أكل قلبي الأسى. ثم كان أن انتهت أيامنا بدورنا ورحلنا إلى السودان - كنت أحس دائماً بفرحة كلما عدنا إليه، لكنها كانت هذه المرة فرحة زائدة. . . تذكرني بشعوري يوم عدت إلى دارنا بعد أن ضللت في إحدى المرات نهاراً كاملاً. ولقد تخليت أني سرعان ما ألقاك يا مادلين، لكن آمالي خابت إذ عرفت أنك تقيمين في بلد مجاور، ومن ثم فلا أمل في شيء أكثر من زيارات معدودة. . . ربما اعترضت أمي أيضاً على أن تصحبني فيها. . ما كان أشد فرحتي يوم زرنا بيتك للمرة الأولى! كان البيت جميلاً يوحي بالرغد والسلام، وكان بالفناء شجرة تين جعلت تقطفين منها وتطعمينني، وكانت بالفناء الآخر (عشة) كبيرة فيها سرب من اليمام الجبلي، وقبل هذا وذاك كنت أنت هناك.
لقد كانت المرة الأولى والأخيرة يا مادلين، وإني لا أزال أذكر كيف ظهرت مرحة أمام