ومع ذلك فما هذه الصورة الرائعة التي تبدو لعيني الشاعر في سكرته الروحية سوى نشوة ما أسرع ما تزول؛ والروح كلما شرد هذا الشرود، ورأى هذه الرؤى وثب ثائراً هائجاً وراح يضرب الجسد الذي يحبه، ويريد أن يتخلص منه إلى الأبد لينتقل من هذه الأخيلة الكواذب إلى عالم الحقيقة الخالد. وهذا ما حرك نفس الشاعر وحمله على التأوه والأنين، وعلى التضرع إلى الله أن ينعم على الروح بفصله حقاً عن الجسد وإطلاقه من قيوده حين يكونان في مثل هذه السكرة لكيلا يرتدا بعدها إلى الصحو الذي ليس فيه سوى المر الأليم.
(وفي هذه اللحظات التي يثيب فيها الروح الشرود،
ويود لو حطم الصدر الذي يحبسه ويخنقه. . .
أواه! لو استجاب لنا الإله من أعلى الوجود،
فضرب كلا منا ضربة تفصله وتطلقه. . .)
يتمنى لامرتين هذا في تأوه وأنين، لأنه يتوقع السعادة يوم تنفصل الأرواح عن الأبدان!
فالأرواح ما دامت أجسادها تكبلها بأغلال من عظام ولحم وشحم وعروق وشرايين، وتكلفها ما لا تنتهي مطالبه من طعام وشراب ومشتهيات، لن تستطيع أن تتحرك قيد أنملة؛ بل ستبقى محجوزة عن كل ما تريد، محجوبة عن كل ما ترقب!
وما بالأرواح رغبة في حطام فان أو مادة زائلة، إن تريد إلا أن تسري في العوالم أنى تشاء، وأن تجتاز حزنها وسهلها، وعاليها وسافلها، وظاهرها وباطنها؛ وأن تعرج من سماء إلى سماء فترى ما يغشاها وتتسمع موسيقاها وأن ترقى في لمح البصر إلى موطنها الأول روضة الخلود، وإلى ينبوعها الذي لا ينضب روح الإله؛ وأن تطير على جناح الحب في فضاء واسع لا يحده البصر، ولا ينتهي في الزمان ولا المكان؛ وأن تضيء في طيرانها ما حولها كما يضيء شعاع الشمس في سطوعه كل شيء؛ وأن تنفذ أخيرا إلى نفس الخالق وتمتزج فيها إلى الأبد امتزاج الأنفاس، ثم تهدأ بعد ثورتها، وتأنس بعد وحشتها، وترى الحقيقة بعينها بعد أن ذهلت كثيرا في دنيا الخيال.