حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبواباً صغاراً لطافاً كالطاقات محشوَّة بصنوف الريَاحين والفواكه واللخالخ والمشام التي فيها اللقاح والبطيخ المستخرج ما فيها المحشوة بالخام والحماحم اليماني المعمول بماء الورد والخلوق والكافور والشراب العتيق والزعفران الشعر. ورأى الفتح غلماناً قد وكلوا بتلك الطاقات مع كل غلام مجمرة فيها ند يسجره ويبخر به، والبيت من داخله إزار في إسفيداج مخرم خروماً صغاراً لا تبين يخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت. فلما عاد الفتح وشرح للمتوكل صورة ما شاهده كثر تعجبه منه وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتم يومه، وادعى شيئاً وجده من التباث بدنه وحقد عليه ذلك، فنكبه بعد أيام يسيرة، وأخذ من بختيشوع مالا كثيراً لا يقدَّر (نقل ذلك ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء ج١ص١٤١) والخبر صورة من ترف بغداد وسر من رأى في عهد العباسيين؛ ولكن ليس معنى هذا أن كل الشعب كان يعيش في مثل ذلك الرفاه والسعادة.
وقبل أن نفرغ من حديث الخيش ننقل لك من معجم الأدباء القصة التالية وفي أبياتها تعرف أن المسلمين في ذلك العهد كانوا يضربون الأمثال ببرودة قبة الخيش لأنها لعهدهم عنوان البرودة. وقد استعار بعض الشعراء برودتها المائية للبرودة المعنوية في الألفاظ والتراكيب الشعرية. قال ياقوت الحموي في أخبار عوف بن محلم الخزاعي المتوفى سنة ٢٢٠هـ إنه كان صاحب أخبار ونوادر وله معرفة بأيام الناس، وكان طاهر بن الحسين قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته، ومن بعده قربه عبد الله بن طاهر من نفسه، وأنزله منزلته من أبيه. قال: وكان قد ورد على عبد الله بن طاهر شاعر يقال له (روح) وعرض على عوف شعره فمنعه من إنشاده عبد الله وقال: إن عبد الله رجل عالم فاضل لا ينفق عليه من الشعر إلا أحسنه. فقال له: قد حسدتني، وتوصل حتى أنشده عبد الله فاسترذله واستبرده ورده، فبلغ ذلك عوفاً فقال:
أنشد في (روح) مديحاً له ... فقلت شعراً فقال لي فيش
(فيش: من فاش الرجل فيشاً: افتخر وتكبر ورأى ما ليس عنده. وفايشه فاخره، وفايش الرجل أكثر الوعيد في القتال ثم لم يفعل).