للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والمصلحين وفي طليعتهم الموسيقي البولوني المشهور أنتون بادريفسكي على أن الفنون الجميلة تسير بخطى واسعة نحو الفناء. ومما قاله ذلك العبقري الموهوب أن تلك الأنغام العميقة التي كانت ترفع الروح إلى الملأ الأعلى توارت أمام الموسيقى الأمريكية الحديثة. لقد صدق هذا الفنان في تعليله؛ فإن رجل الفن كان في الماضي البعيد يغذي عبقريته بجمال الطبيعة. أما الآن فهو لا يعنى بإغناء موهبته وتهذيبها إذ طغت موجة المادة وتبدلت أغراض الحياة فاختلفت عما كانت عليه في سابق الأجيال). هذا هو مفتاح المشكلة الذي يعالج به الأستاذ البعيني فتح المنافذ المؤدية إلى نتائج موضوعة، وهو نفس المفتاح الذي قدمته من قبل حيث قلت: (. . . هذه الحضارة التي نعيش فيها حضارة قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير الأدب والفن في كثير من الأحيان؛ لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأمول العواقب في ميدان النضال مع الحياة ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكاتهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان المرموق والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا، وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان!. . .

إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شيء لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ. وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء)!. . .

إن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة، وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي البعيد يعيشون للفن ويطربون له ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادة على كل شيء طغيانها الجارف، انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق)!

(من وراء الأبد) وجرأة القصاصين العوام:

<<  <  ج:
ص:  >  >>