ولذلك قصر عن تملك القدرة على النظر بدقة إلى الأمور وتفهم الأشياء على طريقة كمال الذي يتبع خطة للعمل يقرن فيها إقدام المتناهي مع الصبر والتأني الطويل ويعرف كيف يُملى على نفسه وهو قائم يحرك الجيوش على جبهة القتال - وهذا هو سر نجاحه -
وهذا دليل على أن الروح العسكري القديمة التي كانت لدى العثمانيين القدماء ومكنتهم من تدويخ أوربا ومقارعتهم لها وهم تحت أسوار فينا قد عادت وتقمصت فيه.
ولكن المهمة السياسية التي ألقيت على عاتق هؤلاء كانت سهلة ليست مستعصية كالتي تلقاها خلفهم في القرن العشرين لأنهم دخلوا أوربا منتصرين واحتلوا بلاداً وأقطاراً شاسعة وكان من حقهم إهمال من يعيش فيها ما دامت القوة في جانبهم.
إني أصرف النظر كما ذكرت في السابق عن موضوع إصلاحاته الغريبة التي أعدها من قبيل عمل المسيطرين الغواة المتشبعين بطريقة بطرس الأكبر - وأعود إلى سياسته التي أوجدها لنفسه أمام الظروف القاسية التي وجد فيها بلاده، تلك السياسة التي أملاها بحزم، وقصر نفسه عليها من المبدأ إلى النهاية تم دوام على اتباعها مخالفاً بذلك تقاليد الدكتاتوريين الذين قبله وما يعمله دكتاتوريو هذا العصر.
لأن كلا منهم في حاجة إلى اتباع مظهرية ترمي إلى إدخال الهيبة في نفوس العامة، وفي حاجة إلى إشعال الشعوب التي فقدت حريتها بشيء من المجد.
وأرى مصطفى كمال الأول من هذا النوع من الناس الذي أوتي من الشجاعة الأدبية ما جعله يقرر من أول الأمر أن يقصر نفسه عن هذه المظاهر الفخرية - ثم أن يدام على حرمان نفسه وعدم إشعال أمته بمثل هذا بعد انتصاره وقد بلغ من الأمر منتهاة. فكثيراً ما هددت الدولة العثمانية بخلافتها وبإعلانها الجهاد رغبة منها في الظهور الدولة ذات السياسة العالمية وإن كانت تمثل الرجعية والتقهقر بأجلى مظاهرهما. وجاء مصطفى كمال فكان أول من تحقق من أن مصلحة تركيا تقضى بتنازلها عن أي نفوذ أو سلطة خارج حدودها القومية، ولذلك وضع نصب عينية أن يتحاشى أشغالها بأي عمل يشتم منه الرغبة في مغامرات خارجية فوق طاقتها.
وقد عانيت ذلك بنفسي في الشهور الأولى من عام ١٩١٩ حينما كنت باستانبول وتيقنت من أن الزعيم التركي قد عزم على اتباع هذه السياسة الإيجابية التي تؤدي حتما إلى