عليه سواه لم يرضه منه إلا ما يتفق مع عزته، ولا يتنافى وكرامته. والذي يعنينا ما سبق أن هذا الظريف قد جمع إلى سواد لونه دمامة شكله، ولكن الله عوضه من هذا النقص لساناً حلو الحديث، رائع البيان قوي البرهان. ونعرف أنه كان مولى لبني أسد، فقد كان أبوه (جون) عبداً لفضافض الأسدي الذي أعتقه. فمن نسب أبا دلامة إلى بني أسد فإنما يقصد أنه كان أسدياً بالولاء. ولذلك تتسامح مع الذين وقعوا في هذه النسبة خطأ أو عفواً كأبي حيان التوحيدي في كتابة (الإمتاع والمؤانسة) وإن الباحث لتأخذه الحيرة إذا ما استعرض حياة هذا الظريف إذ يتساءل كيف أمضى شبابه - حتى أواخر العصر الأموي - مغموراً لا يحس به أحد، ولا يعرف له شعر، ولا يطير له ذكر، ثم وثب إلى الشهرة فجأة في أيام السفاح والمنصور والمهدي، فأصبح ينادمهم ويداعبهم ولا يكاد ينقطع عن مجالستهم! فأين كان قبل اتصاله بأبي العباس السفاح؟ وأين ومتى وكيف تلقى العلم؟ كل هذا مما أغفلته المراجع كأنها لا ترى فائدة في الإشارة إليه. ونحن نحاول أن نرجح - على الأقل - أصوب الأجوبة على الأسئلة المتقدمة: فأبو دلامة كان في بلدة (الكوفة) قبل اتصاله بالخلفاء العباسيين، ولم يكن من السهل على مثله أن يتصل بمن كان قبلهم في قصر الخلافة بدمشق لبعد الشقة من ناحية، ولانشغاله بتحصيل شيء من العلم وكسب قليل من القوت من ناحية أخرى، ولأنه أيقن بأن بضاعته المنادمة والمداعبة، وأن مثل هذه البضاعة مزجاة في أواخر أيام بني أمية التي كانت بركاناً يثور، وزلزلة لا يقر لها قرار. أما الأشخاص الذين طلب عليهم شيئاً من العلم فلم يكونوا من نباهة الذكر بحيث يفردهم الرواة من قبلنا أو نفردهم من بعدهم بالتخصيص، بل لنا أن نحكم بأن أبا دلامة لا رواية له، لأن معلوماته ليست نصوصاً تنقل، وإنما كانت فكراً نابعة من ذكائه الوقاد، وبديهته الحاضرة التي كانت تأذن لمن يسمعه إن يظن أنه على جانب من العلم عظيم! والحق أن أبا دلامة كان من هؤلاء الظرفاء الذين عرفوا بخفة الروح، ورشاقة النكتة، ولطف الدعابة، لا عن علم محفوظ، ولا عن سند مقبول، ولا عن استنباط للأصول. غير أنك إذا تلوت أشعاره طالعتك فيها قوة السبك ورصانة في التعبير، فتغزو قلبك الحيرة وتميل إلى الظن بغزارة علمه، فنوفر عليك حيرتك ونؤكد لك أنه بلغ هذا كله بمواهب فطرية لا باجتهاد عملي، فقد كان مطبوعاً على الشعر في سليقته، يرسله متى شاء دون توقف ولا انقطاع. وأظنك راغباً في