لم يعمدوا إلى ما يعمد إليه أهل الصنعة من الفلاسفة حين يجرون الأفكار من الحياة، وينتزعونها من الواقع الذي ولدت فيه، ونمت وازدهرت.
أينما نولي الطرف في الإنتاج الخالد يقع بصرنا على بطل يجسم مشكلة من المشاكل الإنسانية، تعترضنا جميعاً أيا كان زمننا وأيا كان مكاننا، كمشكلة السعي الأبدي لبلوغ الحق والخير والجمال كما تصورها مأساة (فاوست)، والصراع الدائم بين قوى الفرد وقوة المجتمع العاتية التي لا تأبه لآمال الأفراد وآلامهم كما تبرزها قصة الحلاق الفيلسوف (فيجارو)، أو روايات نجيب الريحاني التي تضحكنا رغم انطوائها على المأساة البشرية الكبرى: ما تلقيه النفوس الخيرة من عنت في هذا الأعلم والتي تنتهي جميعاً إلى اعتبار الخير غاية في ذاته والسعادة في راحة الضمير. والمتتبع لروايات شارلي شابلن خاصة في الفترة الأخيرة من حياته يلمس روحاً فلسفياً تسري في جوانبها. وتأملنا آخر روايات (المسيو فيردو) محترف قتل السيدات لاستخلصنا الدرس العميق الذي يلقيه على الإنسانية العاتية الحمقاء (التي ترفع مثيري الحروب الذين يسفكون دماء الملايين إلى منزلة الأبطال الخالدين، وتحكم الإعدام على فرد قتل عدداً القليل من النساء ليحصل منهم على ان يقيم الأود بعد ان طرق الأبواب فلا يجد رزقاً)، ذلك الدرس يقره شارلي العظيم في الحوار الأخير بينه وبين القسيس الذي أتى يباركه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه، إذ يعلن للقسيس عدم احتياجه إليه فيلح القسيس عليه ان يصلي ويتحدث إليه لعل الله يستجيب له فيقول (المسيو فيردو): (ليس الخلاف يا سيدي بيني وبين الله انه بيني وبين البشر) اجل ان النظام الطبيعي خير لكن البشر هم الذين يفسدونه. البشر وحدهم هم مسؤولون عن وجود الشر في العالم ويخطئ من يدعي ان الله يرد بالعالم شراً.
عالج كثير من الفلاسفة في أسفار عدة موضوع الإرادة الإنسانية أهي حرة أم مجبرة، وعالجوا فكرة القضاء والقدر، وفكرة الاتفاق في الطبيعة والحظ لدى الإنسان. ونستطيع الاستنارة في هذه الموضوعات لو فتشنا عنها في كتب الفلاسفة، ولكنا نراها في ضوء باهر ونلمسها ونحياها لو أنا عشنا لحظات مع الشاعر الروائي سوفوكليس في مسرحيته (أوديب ملكا) التي كتبها في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد، أو أنا جلسنا إلى (اندري جيد) نقرأ روايته (أوديب) التي كتبها في فرنسا منذ أعوام قلائل. خمسة وعشرون قرناً من