للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكل حواسه تنقدح في ذهنه الأفكار الملهمة فيزداد محصوله العقلي ويزداد هو استحواذاً على العالم الخارجي واندماجا في حياته العقلية.

ومثل هذا القارئ يتبع في قراءته طريقة التفرغ والاستيعاب أي طريقة أخذ الشيء والتمكن من كل جزء من أجزاءه فتظل أفكاره في حركة دائمة تتحرك حول غرض عملي واضح فتتحرك هذه الأفكار إلى ملكة. يقول (هربرت سبنسر): المعرفة لا يكاد يعيها الواعي حتى تتحول عنده إلى ملكة، وتظل بعدها تعينه على التفكير عامة. ويأخذ هذا القارئ المفكر ينمو في نشاطه العقلي يبني المقدمات بالخبرة والمشاهدة والاستقراء والقياس حتى يصل إلى النتائج التي يهدف إليها.

وهذه القراءة المركزة المنظمة السبب القوي في توجيه حياة الأفراد الممتازين إلى نواح معينة وحفزهم لتحقيق غايات جليلة سامية عاد عليهم تحقيقها بالصيت الخالد والجاه والثروة. وأذكر على سبيل المثال أمثلة حية خالدة لما توحي به القراءة عندما تقترن بالتفكير العميق واليقظة المستمرة والرغبة القوية وتحديد الهدف وحشد الجهود.

اشترى لورد كلفن كتاباً عن الحرارة تأليف عالم طبيعي اسمه (فورييه) وانغمس في قراءته واستيعابه. فكان لهذا الكتاب أكبر الأثر في حياة الرجل بما أوحى إليه من الاختراعات.

وقرأ (بت) كتاب (ثروة الأمم) تأليف (آدم سمث) فاستطاع أن يرسم للأمة الإنجليزية سياستها الاقتصادية الرشيدة في وقته. وقرأ (سسل رودس) كتاب (الإمبراطورية الرومانية)، تأليف (جبون) فذهب إلى أفريقية يوسع نطاق الإمبراطورية البريطانية.

وقرأ (فورد) مقالا في مجلة عن العربات التي لا تجرها الخيل؛ فأوحى إليه هذا المقال بالتفكير في صنع السيارة ودأب على تحقيق هذا الحلم الجميل حتى كان له ما أراد.

كل من هؤلاء عرف كيف يستفيد مما يقرأه، وهضم ما قرأه فأصبح جزءاً من كيانه العقلي وحجراً أساسياً لابتكار أو خلق أو عمل شيء جديد.

والأديب الفنان كالمخترع ورجل العلم يقرأ للابتكار والاستلهام وليس ليشبع جشعه الثقافي فقط؛ بل لتوحي إليه الفكرة المقروءة بفكرة جديدة، وهو في قراءته يحلق في الآفاق العليا منطوياً على نفسه، ولا يتقيد بمكان وزمان بالغاً المكانة التي يستشرف منها للإلهام ويتعرض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي فيمزق حجب الأشياء وينفذ تواً إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>