إنك لو رجعت مثلا إلى (أوديب الملك) لوجدت أن إغراق توفيق الحكيم في الفلسفة اللفظية قد أفسد الجانب الواقعي من المسرحية في فصلها الأخير؛ ذلك الفصل الذي كان يجب أن يعالج علاجا نفسيا ليستقيم مع منطق الحياة والأحياء. . . ولكن منطق الفلسفة اللفظية قد ارتضى لأوديب أن ينظر إلى نهاية الكارثة نظرة لا تتفق وطبيعة البشر ولا تتفق وجلال المأساة؛ لأنها نظرة قوامها الرضا عن الحاضر بما فيه من قسوة ومرارة، ونسيان الماضي بما فيه من شرور وآثام، وهذا هو الطريق إلى السعادة: سعادة المستقبل الذي يكفر بهناءته عن حاضره وماضيه. . . ولا بأس من أن يقضي أوديب ما بقى من حياته إلى جانب جوكاست، على الرغم من أنه قد اكتشف أن تلك التي يريد أن يعيش معها من جديد هي أمه، أمه التي عاشرها معاشرة الأزواج وأنجب منها عدداً من الأخوة يقال عنهم أنهم أبناء؟!
إن هناك فارقاً كبيراً في القيم الفنية بين الصراع الفكري والصراع النفسي، وحسبك أن ترجع إلى مسرحية فرنسية عرضت لها بالنقد والتحليل في عدد ماضي من (الرسالة)، وأعني بها مسرحية (بنت بين أبوين). . . تلك التي نقلها الأستاذ أحمد الصاوي محمد إلى العربية في كتابه الجديد:(بنات)، حسبك أن ترجع إليها لترى كيف تعبر الألفاظ عن دخائل النفوس، وكيف تستحيل الكلمات إلى ظلال نفسية موحية، وكيف يصب الحوار في قالب من اللمعات الشعورية المشرقة، وكيف تضئ الصورة الفكرية تحت إشعاع الحياة!
لحظات أخرى مع طه حسين في (هامش السيرة):
ينقل لنا الدكتور طه حسين في كتابه (على هامش السيرة) الجزء الثالث، حديثا يدور بين ورقة بن نوفل وصديقه نسطاس حول رواية سمعها ورقة من السيدة خديجة بنت خويلد عن الرسول الكريم فراح يقصها عليه، وعندما فرغ الدكتور من سرد هذا الحديث عقب عليه بهذه العبارات في ص (٥١): (ثم سكت ورقة فلم يقل شيئاً، وكف نسطاس فلم يكتب شيئاً. . . وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة، كأنما كانت نفساهما قد فارقتاهما وجعلتا تسموان إلى أفق بعيد ليس من هذا العالم الذي يحيط بهما شئ. ولو قد رآهما راء على هذه الحال لخيل إليه أن قد اشتمل عليهما النوم، وآية ذلك أن الحس عاد إليهما فجأة فذعرا من هذا الصمت كأنما هبا من نوم عميق. ونظر كل منهما إلى صاحبه نظرة طويلة