به المطاف أن دخل وتسمى باسم تركي، وكان يعامل كأحد أفراد العائلة، لا يرد له طلب ولا يجنح بطبعه إلى شدة أو إلحاح؛ فهو جزء من البيت الذي اعتاد عليه في تفليس واستمر على العيش فيه بتركيا لا فارق بين الحالين سوى السنوات تمضي سراعاً.
كان محدثاً لبقاً له مكانه على المائدة الرئيسية: يشرب الأنخاب ويحضر لكل ضيف كلمة طيبة يلقيها بأسلوبه الخطابي مرحباً بالضيف هاتفاً باسمه ولا تنسى أن الموائد تبدأ من الثامنة ولا تنتهي إلا عند انتصاف الليل، كانت تمد بالردهة الكبرى شتاء، وفي الحديقة تحت ظلال الأشجار المطلة على البحر صيفاً، حيث تكشف وأنت جالس مناظر جزر الأمراء (برينكبو)، ومرت الأيام واعتدنا اللغة الكرجية وألفاظ التحية بها، وأعقب الصيف شتاء وجاءت السنوات تترى. وفي يوم أيام الصيف ١٩٣٤ توفي هذا الرجل الذي أمضى حياته مع أهل هذا البيت الكريم.
وكانت السيدة الفاضلة تعرف قدر إيمانه وتمسكه، فأمرت بأن يؤتى بقسيس أرثوذكسي وأن يقيم مراسم الصلاة ليلاً، وأوقدت الشموع وسهر أهل البيت يرتلون الصلاة وينشدون ترانيم بلاد الكرج بلسان أوطانهم، حتى انتهى الأمر عند مطلع الفجر، وانصرف رجال الدين وقد نفحتهم بمبلغ لا يستهان به. وكان خروجهم من المنزل تحت جنح الظلام في قارب أعد لهم لينقلهم إلى المرسى المجاور حتى لا ينتبه لمقدمهم ومسيرهم أهل القرية.
وفي الصباح المبكر جاء مختار القرية ومعه الهيئة الاختيارية من أهل بوستنجي ومعهم الخطيب والإمام، وتسلموا جثمان الوكيل وتولوا غسله وتكفينه على سنة النبي وتعاليم الإسلام، وساروا به في جنازة محمولاً في نعش على الاعتناق، حتى أتوا المسجد فصلوا عليه المسلمين، وقاموا بدفنه في قبور المسلمين وانصرفوا بعد أن قدموا تعازيهم لأهل الفقيد والسيدة الفاضلة
وكانت السيدة على شيء كبير من مكارم الأخلاق، يغلب عليها الحياء وتخشى أن تجرح الناس في عواطفهم وأفكارهم، فاستعملت الحيلة مع القرية وإمامها، ووسطت من حادثهم برفق وتؤدة، وطلبت إليهم أن يعملوها عن رسوم الحكومة وتكاليف الجنازة، وما يطلبه أهل المسجد الذي أقيمت الصلاة فيه، وما تكلفته البلدية من ثمن للكفن والغسل ومكان للدفن فدهشت السيدة حينما تقدم كبير القرية وقرر أمامها: أن القرية لا تطلب شيئاً وأن الجماعة