للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لقد كان بوكاشيو أديبا أصيلاً، وفناناً مبدعاً، وفلته نادرة من فلتات الذكاء التي تراها الإنسانية في سيرها الطويل في فترات متباعدة جداً وفي أشخاص تخلقهم القدرة المبدعة لعمل يحمله الزمن إلى ذروة الخلود. لقد خلق في كتابه (دي كامرون) عالماً جميلا يموج بالحركة والإحساس العميق. فهو يجلس في عالم الخلود الأدبي إلى جانب دانتى وتشوسر وشكسبير. وقلما عرف التاريخ الأدبي فناناً مرهف الحس يجمع إلى فنه علماً غزيراً وجلداً على دراسات مضنية تتطلب صبراً جميلاً. ليس في مقدورنا أن نزعم أن بوكاشيو كان من هذا الطراز النادر، كما أنه ليس من الإنصاف أن نبخس مؤلفاته في اللغة اللاتينية حقها من التقدير، فقد كانت دائرة معارف الأدباء ومعجمهم في أوائل عصر النهضة، وهو وإن لم يبذل في تأليفها أكثر من مجموع الجمع والترتيب، كان بجلده الرائع وصبره وأناته الوحيد الذي حفظ للعالم قصائد للعالم قصائد هوميروس.

إن إيطاليا وأوربا مدينتان لبوكاشيو بحفظ آثار أعظم شاعر تفخر به الأجيال. . . لقد بذل بترارك مجهوداً في جمع تلك القصائد التي لم يكن في مقدور أحد في أوربا قراءتها في اللغة اليونانية، ولكن بوكاشيو هو الذي أخذ تلك القصائد وراح يراجعها كلمة كلمة ويعيد كتابتها مستعيناً بليون بلاتوس الذي كان يلفظ له حروف الكلمات اليونانية، وبذلك تمكن بوكاشيو من ترجمتها بأسرها إلى اللسان اللاتيني.

كانت حياته الخاصة سلسلة من الآلام والعذاب، ولم يكن يخفف من قسوتها عليه غير العطف الذي كان يغمره به بترارك وزيارته لأسرة هذا الصديق. كان معدماً ينغص عليه الحياة القاسية خوف وتشاؤم من الموت ومن المصير المجهول في العالم الأخر، ذلك الخوف الذي استطاع بترارك أن يخفف شيئاً من وقعة عليه ويهدي قليلا من سواد أفكاره. كان مهملا في زمانه لا يعرف أحداً. وأبتسم الحظ له في أخريات أيامه، فاختير لملء أول كرسي في جامعة فلورنسا أسس بإسم دانتي، وكأنما جاء تكريم دانتي في الوقت المناسب لتخفيف وطأة الفقر، وراح يحاضر عن (الكوميديا الإلهية) ويدافع عن شعر دانتي، ذلك الشعر الذي أحبه وتعصب له حتى مع صديقه بترارك. وألقي محاضرته الأولى في شهر تشرين الأول عام ١٣٧٣، وكان في الستين من عمره، واستمر يحاضر حتى بلغ النشيد السابع عشر من الجحيم في الكوميديا الإلهية، فداهمه مرض شديد أقعده عن العمل، وبقي

<<  <  ج:
ص:  >  >>