للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يعاني سكرات الموت حتى اليوم الحادي والعشرين من شهر كانون الأول ١٣٧٦، فأراحه الموت من عذاب الحياة بعد أن ذاق حسرة موت صديقه بترارك في صيف ١٣٧٤.

لقد ذكرنا فيما مضى أن جميع ما كتبه بوكاشيو في اللغة الإيطالية كان من وحي فياميتا التي أحبها، ففي الصفحات الأولى من كتابه (دي كامرون) نرى أنه لم ينس حب تلك الفتاة بعد أن كتب عنها - أو متأثراً - ستة مؤلفات نثرية، فافتتح ذلك الكتاب العظيم بالإشارة إليها أن يذكر اسمها، وختمه بنفس الطريقة والأسلوب. إن جميع الأسماء التي قص على لسانها في كتابه مائة قصة في عشرة أيام خيالية محضة ما عدا اسمها (فياميتا). أما بوكاشيو، فإنك لا تجد له ظلا في تلك القصص المائة. إن العجب ليأخذ الناقد الحصيف وهو يرسل رأيه ويتأمل كتابه الخالد (دي كامرون) الذي يمثل نبوغه ومجونه وتسامحه الكثير ومحبته العميقة للإنسانية، إذ يجد على النقيض في مؤلفاته الأخرى التي كتبها باللغة الإيطالية الدارجة، لا يعبر كما عبرت عن حوادث حياته الخاصة، وآرائه في الحياة وحبه وكرهه وسخطه.

إننا نتلاقى مع بوكاشيو في هذا الكتاب مرة أو مرتين، ولكن في غير القصص التي يبدو غامضاً جداً في حوادثها وأشخاصها ورسم أهدافها.

إن تصميمه الفني لهذه القصص يدل على فن أصيل وعبقرية فذة وذكاء مفرط، استطاع أن يشيع فيها عالماً تضطرم فيه الحياة بكل ما فيها من أحزان ومسرات، وظواهر وأسرار. لقد نفذ بعبقريته الفذة إلى ما وراء مظاهر الأشياء، نفذ إلى أسرار النفس الإنسانية فصور أفراحها وأحزانها، صفحها وانتقامها، رحمتها وحقدها، كرمها وبخلها، تصويراً عميقاً شاملا، لم تشذ عنه النفس، ولم يتوار عنه ضمير؛ فكان بذلك (شكسبير) عظيم الأثر في عصره، وفي العصور التي حملها فجر الزمن من بعده، يقرأها المرء فيجد فيها وصفاً لما يضطرع بين جنبيه من ألم وعذاب، ومرح وسرور، في أي عصر كان، وهذا عمل العباقرة الخالدين!

إن كتاب ألف ليلة وليلة يتوارى خجلا أمام دي كامرون إذ وضعا في ميزان التقدير وتحت ضوء النقد. إن كتاب ألف ليلة وليلة لا يقوم في مجموعه إلا على ملك مستبد يقتل زوجاته لألم في نفسه من النساء، وعلى شهرزاد الفتاة الأريبة التي تقص عليه تلك القصص، ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>