ليلذ لي أن أتساءل في هذا المقام: لماذا لم يظهر مثل هذا الالتباس في مدلول كلمة العرب على أقلام المؤرخين ممن سبق ابن خلدون أو تأخر عنه؟! ولماذا لم يظهر كذلك في شعر الشعراء ممن تقدموه أو عاصروه، ما دام هذا هو مدلول الكلمة منذ طورها الأول الذي كان في بداية أدوار التاريخ؟!
ويورد الحصري بعد ذلك - تأييداً لابن خلدون - مثلاً شعبياً كثيراً ما تلوكه ألسنة العامة من أهل الحواضر، فيوردونه شاهداً على فساد ذوق البدوي، وهو قولهم:(الكل عند العرب صابون. . .) وأشهد لقد سمعته كثيراً ولكن بتحريف بسيط، فذكرني بـ (غير عزيز!)، وأعاد للنفس ذكريات مفزعة من الماضي الرهيب الذي توالى على الأمة العربية فصبرت عليه صبر الجبال. . . أجل لقد سمعت هذا القول كما سمعه الحصري فذكرني بشيء غاب عنه تذكره، ذكرني بذلك الاستعباد الطويل الذي تقلبت هذه الأمة بشتى مطارفه، يوم كان العربي في حاضرته يضطر - كارهاً أو مختاراً - أن يتشبه بذلك المتسلط القاهر فيحاكيه في عجمته، ويماثله في بزته. يوم كان العلج في عنجهيته يقف أمام هؤلاء الأعراب الذين يردون الحواضر، فيتأذى بصره المترف برؤية شقائهم البادي من فتوق أسمالهم، فلا يجد شيمته يحقرهم بها، فتوصل إلى قرارة نفسه الرضوان، أكثر من أن يردد على ملأ منهم قائلاً:(عرب! عرب!).
وإن كنت في ريب من ذلك فسل من شئت: هل عسيت إن شاكسك رجل من أهل هذه الدساكر حتى بلغ منك ما تكره ثم أردت أن تثار لنفسك منه، فهل رأيتك تغمغم بأكثر من أن تقول له:(فلاح! فلاح!) إلا أن هذه قرينة تلك، وكلتاهما مما خلفته لنا عصور الاستعباد الطويل، وتلقفناه عن أفواه أولئك المستعبدين، بعد أن يورد الأستاذ الحصري هذا الشاهد يعلق عليه طويلاً ويتحدث عن مبلغ تفشيه بين العامة في شتى الأقطار، وهذا أمر سلمنا له به، ولعل في ردنا عليه الكفاية، ثم ينتقل الاستشهاد بأقوال كبار المؤرخين والباحثين، ملتمساً في ذلك ما يقوله شاهداً على صواب ما يورد. وإنني أتناول واحداً من هذه الأقوال الكثيرة، فاتخذه شاهداً على عكس ما يقول، وأؤكد له أن (الثعالبي والفالي وابن السكيت وابن الأثير) وغيرهم ممن استشهد بهم، لم يخرجوا قيد أنملة عما تآلف عليه الناس منذ أقدم الأزمنة إلى اليوم. إنهم حين لا يفرقون بين باد وحاضر يقولون:(عرباً) وإذا ما أرادوا