الباب فيقول:(والعرب إنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، ولا يبالون بالماء طلب أو خبث. . . ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابث والأهوية، لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات).
ويعلق على ما سلف بما يلي:(يظهر من ذلك بكل وضوح أن العرب المقصودين في هذا الفصل هم البدو الذين يعيشون في القفار ولا يوجد في هذا الفصل كلمة واحدة تنطبق على أهل الأمصار).
وفي هذا المقام أيضاً استشهد من الفصل عينه، مؤكداً أن في هذا الفصل أكثر من (كلمة واحدة) تنطبق على العرب الأولين الذين خرجوا من الحجاز واليمن، من مكة والمدينة والطائف وصنعاء وظفار وغيرها (وهي أمصار كلها!) بل خرجوا جميعاً من مدرسة محمد (ص) بعد أن قذف في قلوبهم هذا الإيمان الراسخ، فإذا هم يعلمون الحضارة لأهل الحضارة.
أجل، تنطبق على هؤلاء بعينهم، ويتضح ذلك مباشرة بعد آخر كلمة يوردها الأستاذ الحصري في النص الذي استشهد به من كلام ابن خلدون، وذلك حين يقول:(وأنظر لما اختطفوا الكوفة والبصرة والقيروان، فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس).
ألا ترى - يا أخي القارئ - صدق ما أشرت إليه من خلال هذا النص الذي (بُتر) أوله ليؤدي معنى غير معناه الذي أراده له صاحبه؟! وهل اختط الكوفة والبصرة والقيروان إلا رجال أفذاذ من أقران (عمر ومعاوية وابن العاص) وغيرهم ممن ساسوا البدو والحضر فأحكموا السياسة؟!
ثم يتدرج الأستاذ الحصري بعد كلام طويل إلى قوله:(ومما يزيد الأمر وضوحاً وقطيعة أن ابن خلدون يعود إلى هذه القضية (أي أن العرب بمعنى البدو) في بحث العلوم أيضاً، إذ يقول بعد أن يشبه العلوم بالصنائع:(وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها). . . يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة (العرب) مرتين مقابلا لكلمة (الحضر) بشكل لا يترك مجالا للشك في أنه يقصد منها (البدو).