للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كان قصرها في (كليشي) أشبه بندوة عامرة يؤمها رجال السيف والقلم بين حين وحين، وصالوناً من تلك الصالونات الفخمة التي كانت تزجر بها باريس ويقصد إليها المترفون من الرجال والنساء لتغذية العين والفكر والخيال. . . وفي يوم من أيام قصرها الحافلة بالترف والإيناس والمتعة، يقع لمدام ريكامييه حادث يهز كيانها هزاً عنيفاً، وتتذوق في ظلاله طعم الري، وتنسى حرقة الظمأ، وتشعر كما لم تشعر من قبل. . . بأنها امرأة! كان ذلك في حديقة القصر حين ركض وراءها ابن أخت ريكامييه، وكان شاباً جميلاً من ذلك النوع الذي يخلب ألباب العذارى. . . وكانت هي تنفر منه في دلال، وتضحك من عجزه عن اللحاق بها، ولكنه يلحق بها ويحتويها بين ذراعيه. . . وكادت تصعق من هول المفاجأة، فراحت تقاوم في عنف، ولكنها أحست بوجهها يلتهب تحت أنفاسه المحترقة، وبشفتيها تذوبان في شفتيه، وبكيانها يتلاشى في كيانه. وفي غمرة النشوة رأت نفسها تغيب معه في حلم جميل، وتطوق عنقه بذراعيها، وتدفن وجهها في صدره، وتنظر في عينه نظرة طويلة حالمة. . . نظرة امرأة استيقظ في أعماقها الرجل! وحين أفلتت من بين يديه تطلعت إليه كغزال مذعور، وانطلقت تجري إلى القصر. . . كانت تريد أن تخلو إلى نفسها لتستعيد الحلم الجميل مرة أخرى!

حرك هذا الحادث في نفس مدام ريكامييه كلُّ عاطفة خامدة، وأثار كلُّ شعور كامن. . . وراح الفكر الحيران يسبح في خضم الوجود، باحثاً عن أمنيات ضلت طريقها من طول ما لقيت من ظلام وضباب. والذهن الكليل يحلق في أجواء الخيال، بيني من قصور الأوهام ما شاءت فنونه وشجونه. والقلب الثائر يرسل أناته في نبضاته، فلا يسمع لها صدى من عطف حبيب أو رفيق، والروح الشاردة تعبر عالم الأسى والأنين مرتاعة ملتاعة، تنشد الري فلا تجد إلا الظمأ، وتترقب النشوة فلا تحس إلا الألم، وترجو الفرحة فلا تلقى إلا الشجن، ولا تعود من عالمها هذا إلا بأشتات المنى تحتضر!

وتمضي الحياة في طريقها تطوي الأيام حتى تقف بمدام ريكامييه عند يوم لا ينسى. . . لقد رآها نابليون في ذلك اليوم في حفلة من تلك الحفلات الصاخبة التي كان يعج بها قصر أخيه لوسيان!

كان لوسيان يهيم بها، ويتقرب إليها، ويلقي إلى الصيد الجميل بكل ما شاء من شباك، ولكنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>