التي تلقاها على أساتذته. فألقى بالكتب عرض الحائط، وعول على أن يبدأ حياته الفكرية من جديد بقراءة (الكتاب الكبير) كتاب الحياة. فأقبل على الناس يضطرب وإياهم في مناكب الحياة، وأنفق بقية أيام شبابه في الارتحال ورؤية القصور، وتعلم صنعة الحرب على يد أشهر جندي في أوربا في ذلك الحين وهو هولندي (موريس دي ناسو). ثم رحل إلى ألمانيا، وهناك ساهم إلى جانب بارفايا في مقاتلة بوهيميا الثائرة في الحرب المعروفة بحرب الثلاثين، وخالط مختلف الأجناس والشخصيات. وهكذا طفق يستمد فلسفته من مصدرين: نفسه حيث (النور الفطري وحيث تكمن الحقيقة كون النار في الحجر الصوان) والعالم حيث الحقيقة حية بسيطة لم يفسدها التجريد والحفاف، فجاءت فلسفته مثلاً رائعاً للوضوح والإشراق والتكامل المذهبي، واستحق بجدارة لقب (أبو الفلسفة الحديثة).
الأبراج العاجية:
إن المتفلسفين الأكاديميين ليكشفون عن غرور أحمق - إذ يزدرون هذه المصادر الكبرى ويعتزلون في أبراج عاجية شاهقة بمعزل عن الحياة التي تلفهم جسداً وعقلاً، يقضون العمر فيها يجترون أفكاراً جامدة لا حياة فيها، فارغة خلوا من المعنى، متوهمين أنها الحق في حين أنه هنالك عند أقدامهم: في عقول المحنكين، ذوي الحس الدقيق والبصيرة النافذة من العامة والكتاب، ممن لم يفسد تفكيرهم التعمل. إلى هؤلاء أسوق سخرية عمر الخيام من الفلاسفة ليطامنوا من كبريائهم:
(طالما خضنا غمار الفلسفة ... وسمعنا من صواب وسفه
وخبطنا في مضلِّ معسفه ... ثم صرنا حيث كنا أولاً
لم نسر نحو الهدى قيد ذراع
كم بذرنا حكمة الفكر البصير ... وسقيناها حيا العقل الغزير
ما جنينا غير بهتان وزور ... ما علمنا غير أنا في الملا
شغل البرق خبت بعد التماع
ولا يفوتني أن أعيد إلى الأذهان سخرية باسكال من فلسفة أفلاطون في عبارته الشهيرة (أراد أفلاطون أن يعلو على الطبيعة فسقط إلى الحضيض.) إذا كان أفلاطون العبقري الفذ مهدداً بالسقوط إلى الحضيض فما رأى المتفلسفين الذين يقيمون بينهم وبين البصيرة