للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اعرف والدتي وهي معلمة فقط، لم تكن تملك دقيقة من دقائق حياتها، بل كلها كانت رهن التعب والشقاء والتعليم والكدح في سبيل القوت، حتى اضطرت إلى وضعي في مدرسة داخلية، اخرج منها في الأسبوع مرة إلى البيت، أقول (البيت) وأنت تدرك بثاقب فكرك ما هو هذا البيت. كنا نسكن في غرفتين في الطابق الرابع من بناء كبير عال. كنت إذا جئتهما في يوم عطلة أو في يوم جمعة وجدتهما بعيدين عن الحياة العائلية كل البعد، فاهرب منهما إلى المدرسة. وكيف يكون البيت إذا كان لا يطبخ فيه الطعام، ولا تغسل فيه ثياب، ولا يعمل فيه شي مما يعمل في البيوت؟ كانت والدتي تشتغل بلا انقطاع لتحصيل القوت، وكان والدي بلا انقطاع يشرب الخمر، فهذان المخلوقان وان كانا متقاربين جسما يعيشان تحت سقف واحد، فقد كانا متباعدين كل البعد معني، وكنت أنا في سرور لأنني بعيدة عنهما، حتى أنى لم اكن أجد لهما في قلبي مكانا. استدعتني يوما مديرة المدرسة إليها وأخبرتني بوفاة والدتي ثم قالت: (ان المرء تصيبه في حياته مصائب جمة، فيجب أن يتلقاها بكل ثبات وصبر)، لم أجد في ذلك الوقت وفاة والدتي مصيبة كبيرة كما قالت المديرة، ولكني أصبحت احب والدتي بعد وفاتها، آه لو تعلم كم احبها الآن. . . . كم احبها!

سكتت هنا قليلا، وقد شعرت أن صدرها يعلو وينخفض من حسرة كامنة في أعماق قلبها، ثم قالت:

- منذ ذاك الوقت أصبحت الحياة على أضيق من سم الخياط. أخرجني والدي من المدرسة، واخذ يسوقني من مكان إلى مكان. اجل! اخذ يسوق فتاة في السادسة عشر من عمرها، لا تعرف من الحياة إلا ما رأته من نافذة المدرسة، إلى الأماكن التي كانت والدتها تعطي دروسا فيها لتقوم مقام أمها في تحصيل اللقمة! منذ ذاك الحين انتقلت إلى وظيفة السعي وراء كسب القوت. وأنا الآن أسعى بكل قواي وأعطي دروسا، وكل يوم اقطع مسافات شاسعة متعبة، فمن (طرابية) إلى (مغري كوي)، ومن (اسكدار) إلى (بك اوغلي)، ولكني لا ادري لماذا اشتغل هذا الشغل؟ ولماذا اسعي كل هذا السعي؟. . انهم يقولون لي (اشتغلي) وأنا اصدع بالأمر!. .

كنا على وشك الوصول إلى آخر (الجسر) فتراءت لنا أضواء (غلطة)، فرأيت من الواجب أن أقول لتلك الفتاة المسكينة كلمتين اسليها بهما، فقلت لها:

<<  <  ج:
ص:  >  >>