من راح يحمل في جوانحه الضحى ... هانت عليه أشعة المصباح
وجلا المصون من الضمائر فانتهى ... همس النفوس لضجة وصياح
(فاقرأ هذين البيتين كما قرأتهما أنا، وأعد تلاوتهما على نفسك، وانفذ إلى مطاويهما، وتذوق حلاوتهما، فستجد أنك حيال لون من الشعر المجنح الجميل طالما رغبنا في مثله، وطالما حرصنا على أن يسحب الشعراء على ذيله. وسترى عمل البيان في الخروج بخوافي النفس إلى دنيا النور أو دنيا الضجة والصياح كما يقول البدوي؛ وإنما يعجبني البيت الأول لأن صورة (الضحى بين الجوانح) من أرق الصور وأدناها إلى الخيال وأعقلها بالجمال. . . ويعجبني البيت الثاني لأن كناية (الضجة والصياح) من أبرع الكنايات في الدلالة على الكشف والإعراب).
هنا ذوق رائع في فهم الشعر ورفع الغطاء عن أسرار مراميه، ولكنني أختلف مع صاحبه حين يزن هذا البيت بميزان الأداء اللفظي في الوقت الذي أنادي فيه بإقامة الميزان للأداء النفسي في الشعر العربي الحديث. . . يقول بدوي الجبل في مجال الحديث عن موقع المرأة من شعور أبي العلاء:
يا ظالم التفاح في وجناتها ... لو ذقت بعض شمائل التفاح!
ويقول روحي فيصل في مجال التحليل والنقد:(فهنا عتاب ناعم يوجهه الشاعر لأبي العلاء فيما تجنى على المرأة من نقد، وهنا إغراء جميل على محاسن الأنوثة، وهنا فوق ذلك، ألفاظ خفاف، ومسرى حلو، ونغم لطيف، وشعور - على أنه سطحي وابتدائي وجماهيري - لا يخلو من شيء من الإحساس بفتنة المرأة وسحر الجمال).
معذرة إذا قلت للأستاذ فيصل: إن هذا الشعور الذي يصفه بأنه سطحي وابتدائي وجماهيري، هو وحده الذي أكسب بيت بدوي الجبل ذلك الأداء النفسي الذي أدعو الشعراء إلى أن يطرقوا أبوابه. . . إن كلمة (لو ذقت) هي التي أوحت إلى الأستاذ فيصل بهذا الوصف، ولكنه لو نظر إلى الظلال الفنية التي أسكنها الشاعر بناء التعبير ممثلة في تلك الكلمة، لتكشف له عمق الحركة النفسية في ذلك الصدق الشعوري المنبعث من بساطة الأداء.