والشجن. . . لقد كان من الممكن لو لم يقض القدر القاهر بانطفاء الشعلة المتوهجة في الخيال الخلاق، أن يفيض النبع أكثر مما فاض فيظفر عشاق القصة الطويلة بأثر فني آخر يضاف إلى ذلك الأثر الوحيد الفريد، وأعني به (ذهب مع الريح)! مهما يكن من شيء فحسب مارجريت متشل أن يدرج اسمها في سجل كتاب القصة الأفذاذ بهذه التحفة اليتيمة التي كانت في حساب الفن كل رصيدها المدخر، وإنه في ميزان النقد لرصيد عظيم. . . ومهما يكن من شيء أيضاً، فإن طريق الخلود لا يسلكه السالكون بكثرة ما قدموا إلى الناس من نتاج القرائح وعصارة الأذهان، وإنما يسلكونه بقيمة هذا النتاج ومدى تمثيله لصور الحياة وتصويره لحقائق النفوس على اختلاف الميول والأذواق وتفاوت الأجيال والعصور. الكيف لا الكم في ميزان الفن هو وحده أساس الخلود والبقاء؛ وإلا لما استطاع كاتب مثل بنجامان كونستان أن يأخذ مكانه في صفوف الخالدين بقصة واحدة هي أدولف تلك القصة التي قال عنها بول جورجيه:(إن أدولف لتعد مثلاً أعلى للقصة الذاتية، ولقد بقيت من كل تلك القصص التي ظهرت في القرن التاسع عشر وهي أحفلها بالحياة، وأكثرها إنسانية، وأشدها أسراً للشعور، ولا توجد قصة أخرى تهزني كما هزتني هذه القصة). . . كما قال عنها فردينال برنتيير:(إن أدولف قصة إنسانية لا يمكن أن ترقى إلى حقيقتها التحليلية قصة أخرى
ينظر بورجيه إلى الفن من ناحية القيم الإنسانية، وينظر إليه برنتيير من ناحية القيم التحليلية، وبهذين الجناحين معاً يحلق الفن في أرحب الآفاق، فإذا ما نال منه الجهد فهبط ليستريح فإن مكانه هناك. . . في أعالي القمم! أما الإنسانية في (ذهب مع الريح) فهي في تلك الدفقات العاطفية العميقة المنبعثة من قلب امرأة حائرة بين رجلين: رجل جدير بحبها ومع ذلك فهي لا تحبه ورجل غير جدير بهذا الحب ومع ذلك فهي تحبه، وهكذا كان حال (سكارليت) وهي موزعة الفكر والشعور بين (أشلي) و (بتلر)!. . . وأما التحليل فهو في تلك الصفحات الزاخرة بقصف المدافع ودوي القذائف وأنات الضحايا وزفرات الثكالى وعصف الحديد، هناك حيث تقدم مرجريت ميتشل للحرب الأهلية الأمريكية صورتين لا مثيل لهما في متاحف الفن ومتاحف التاريخ!. . .