سياق الكلام يدل على أن البحث في فهم الشعر، وتذوقه، ونقده، ومعرفة ما يسمو به وما يتضع.
يريد الجاحظ أن يقول: إنه لا يفهم الأدب - ومنه الشعر - إلا الأدباء، وأما هؤلاء الأعلام الذين رددوا أسماءهم فهم علماء كل في ناحيته التي يجيدها: فالأصمعي يحذق معرفة الغريب من ألفاظه اللغوية، والأخفش رجل نحوي لا يعرف إلا الإعراب، وأبو عبيدة قد تخصص في معرفة السير وأيام العرب وأنسابهم. أما المتذوقون للشعر القادرون على نقده من الناحية الفنية فهم طائفة الأدباء الكتاب.
ودليل آخر يؤيد ما نذهب إليه في فهم هذه العبارة هو قول الجاحظ في أولها:(طلبت علم الشعر. . .) والجاحظ عالم أديب يعني ما يقول، ويستطيع أن يفرّق بين الشاعر وبين العالم بالشعر
ولو أراد الجاحظ الموازنة بين الشعراء لم يفته، وهو الخبير، أن يذكر أسماء فحول الشعراء لا أساطين العلماء.
ودليل ثالث: هو أن الباب الذي عقده ابن رشيق قد جعل له عنواناً (باب في التصرف ونقد الشعر) ونحن مضطرون لأن نورد من هذا الباب ما يؤيد قولنا.
حكى الصاحب بن عباد في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري فقال: يا أبا عبادة أمسلم أشعر أم أبو نؤاس، فقال: بل أبو نؤاس لأنه يتصرَّف في كل طريق ويبرع في كل مذهب إن شاء جدَّ وإن شاء هزل، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتعلق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله، فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة! إن حكمك في عميك أبي نؤاس ومسلم، وافق حكم أبي نؤاس في عميه: جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما، ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبيدة لا يوافقك على هذا، فقال ليس هذا من علم أبي عبيدة فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر!
والخلاصة أن الجاحظ والصاحب وابن رشيق لم يفضلوا ابن الزيات وابن وهب وغيرهما