الموروثة والصلات الأجنبية، فهي أشبه بالطعمة الغريبة أدخلت في جذعه فجاء ثمرها مغايرا للأصل في طعمه ولونه، ومختلفا عنه في قيمته وجداه.
سارت المدرستان على جانبي الركب الحثيث في طريق النهضة، مدرسة مصر يمينية تتأنى وتترزن، ومدرسة لبنان يسارية تتسرع وتخف. وكان الزمام أول الأمر عندنا وعندهم في أيدي المحافظين كحمزة وحفني والمهدي والإسكندري وشاويش ووالي هنا، وكالبستانيين بطرس وسليم وسليمان. واليازجيين خليل وناصيف وإبراهيم هناك، فكان التقليد غالبا، والتطور بطيئا، والفروق بين المدرستين قريبة. فلما أسرع الركب، واتصل القديم بالحديث، وامتزج الشرق بالغرب، انشقت من مدرسة دار العلوم المحافظة مدرسة أخرى تتميز بالإيجاز والطبعية والسهولة والحرية والمنطق، هي مدرسة لطفي السيد، ومن رجالها قاسم أمين، وفتحي زغلول، وعبد القادر حمزة، كما انشقت من المدرسة اليازجية المحافظة مدرسة أخرى تتميز بالشاعرية والطرافة والانطلاق والتمرد، هي مدرسة جبران، ومن أتباعها ميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني، وماري زيادة.
وظلت المدرستان الشقيقتان المصرية واللبنانية تنتجان الأدب في ضروبه المختلفة بأسلوبين مستقلين، أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، على ما كان بينهما من تفاوت في الطاقة والمادة والصنعة والتقيد والتحرر، وبقيت المدرسة الأزهرية الأم عاكفة على النظر المجرد والجدل العقيم بين أروقة الأزهر والزيتونة والأموي والنجف، تنتج الخام ولا تصنع، وتشحذ السلاح ولا تقطع، فلم يكن لها في ذلك العهد الغابر أدب غير أدب الشواهد، ولا أسلوب غير أسلوب الحواشي، حتى أن شيخا من كبار شيوخها كان ناظرا يحكم عمله على وقف خيري، فاضطر إلى أن يكتب رسالة إلى محافظة القاهرة في شأن من شؤونه، فلم يفهموا مما كتب شيئا. فلما أعادوا الرسالة إليه يستوضحونه المبهم، ضحك هزؤا بالجهل، ومصمص أسفا على العلم، ثم كتب على الرسالة حاشية على طريقة: قولي كذا معناه كذا، وقولي كذا به كذا، ثم ردها عليهم. ولو أنهم ردوها عليه مرة أخرى لكتب - رحمه الله - تقريرا على الحاشية.
كان الفرق بين مدرسة القاهرة ومدرسة بيروت كالفرق الذي كان بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة. كان البصريون يقدمون السماع فلا يرون القياس إلا في حال تضطرهم،