ويتشددون في الرواية فلا يأخذون إلا الفصحاء الخاص من صميم العرب، لكثرة هؤلاء بالبصرة وقربها من عامر البادية. أما الكوفيون فكانوا لخلاطهم أهل السواد والنبط يعتمدون في أكثر المسائل على القياس، ولا يتحرجون في الأخذ عن أعراب لا يؤمن البصريون بفصاحة لغتهم. فالمصريون لقربهم من الأزهر واعتمادهم على القرآن، وقلة اختلاطهم بالأجانب، كانوا أشبه بالبصريين في تقديمهم السماع، وتشددهم في القواعد، وخضوعهم للمعاجم، ونفورهم من الدخيل، وجريهم على أساليب القدامى، واعتقادهم أن العربية لغة العرب الأولين، فلا يملك المولدون أن ينقصوا منها ولا أن يزيدوا فيها. واللبنانيون كانوا لبعدهم عن بيئة القرآن، وتأثرهم بأسلوب الإنجيل، وكثرة اختلاطهم بالفرنسيين والأمريكيين، وشدة احتياجهم في الترجمة والصحافة إلى تطويع اللغة وتوسيعها لتعبر عن المعاني الحديثة، كانوا أشبه بالكوفيين في تقديمهم القياس، وقبولهم الكلمات المولدة والنصرانية والدخيلة، واقتباسهم بعض الأساليب الأوربية، وتساهلهم في بعض القواعد النحوية والتراكيب البلاغية؛ ولذلك رماهم الدرعميون بضعف الملكة، وسقم الأداء، وقصور الآلة، فلم يقيموا لإنتاجهم وزنا، ولم ينيطوا بمعاجمهم ثقة. ولكن الحق أن المدرسة اللبنانية كانت عملية تقدمية حرة، واكبت الزمن في السير، وطلبت العلم للعمل، وسخرت الأدب للحياة، ونظرت إلى اللغة نظر الوارث إلى ما ورث، يملك عليه بمقتضى الشريعة والطبيعة حق الانتفاع به على الوضع الذي يريد، وحق التصرف فيه على الوجه الذي يحب. وقد تطوقت العربية منها أيادي مشكورة بما أمدتها به من مصطلحات الفنون المختلفة، وأسماء المخترعات الحديثة، عن طريق الترجمة والتأليف والتمثيل والصحافة والتجارة. ثم كان في جانبها الزمن وفي مؤازرتها الطبيعة، ففعلا فعلهما في تطوير المصرية حتى قل بينها وبين أختها الخلاف وكثر التشابه، وجاء مجمع فؤاد الأول فأخذ يحكم قانونه يوفق غير عامد بين المدرستين، فتسهل في القواعد، وتجوز في الوضع وتسمح في الدخيل، وسلم بالواقع، وأصغى إلى مذهب الإجماع اللغوي الذي يدعو إليه الدكتور السنهوري، والى مذهب القياس في اللغة الذي يقول به الأستاذ أحمد أمين.
والمتتبع لتطور المدرستين أيها السادة يرى أن كلتيهما قد مرت في أطوار ثلاثة: طور التقيد والمحاكاة، وطور التحرر والاعتدال، ثم طور التمرد والانطلاق. ولتكن الانتقال من