للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

طور إلى طور كان في مصر متثاقلا متداخلا، يرود قبل النجمة، ويحوم قبل الوقوع، على حين كان في لبنان متسرعا لا يتأنى، مصمما لا ينخزل. فبينما نجد مراشا الحلبي في (مشهد الأحوال) يقلد ابن حبيب الحلبي في (نسيم الصبا)، وناصيفا اليازجي في (مجمع البحرين) يقلد الحريري في المقامات، وإبراهيم اليازجي في (لغة الجرائد) ينهج نهج الحريري في (درة الغواص)، إذ نجد آل البستاني وآل الحداد وزيدان ومطران والخوري والجميل وملاط يتوخون السهولة والابتكار والطرافة، والجبرانيين والمهجريين يجنحون إلى الأصالة والإبداع والتطرف؛ والزمن بين هؤلاء وأولئك متقارب، والعوامل المؤثرة فيهم لا تكاد تختلف. وليس بسبيلنا اليوم أن نحلل العوامل في كل تطور في كل بلد، ولا أن نعين الرجال في كل مدرسة في كل طور، ولا أن نورد الأمثلة من أدب كل رجل في كل فن. إنما سبيلنا أن نقول إن الجميل كان من خير من يمثلون اللبنانية في طور الاعتدال، وإن الجارم كان من خير من يمثلون المصرية في مثل تلك الحال.

سيداتي وسادتي: ولد أنطون الجميل في بيروت سنة ١٨٨٧، وبيروت حينئذ كانت ملاذ العلماء والأدباء من لبنان وسورية، ومنتجع المبشرين والمستشرقين من فرنسا وأمريكا، وكانت النهضة الأدبية في عاصمة الجبل قد أثمرت بواكيرها ودنا جناها، فنال الفتى أنطون ما تيسر له منه في الكلية اليسوعية. والمارونيون كانوا يفضلون التعليم الفرنسي لصلتهم الدينية القديمة باليسوعيين، وعلاقتهم السياسية الجديدة بفرنسا. وحذق أنطون على الأخص اللغتين العربية والفرنسية. والنبوغ فيهما كان فاشيا في شباب لبنان، لأن تعليمهما كان جاريا على الأسلوب اللاتيني في تأليف الكتاب وإعداد المعلم واختيار الطريقة؛ فالكتاب متعمق في القواعد متنوع في التطبيق، والمعلم متضلع من العلم متقص في التحقيق، والطريقة قائمة على الحفظ معتمدة على التمرين. ذلك إلى أن الغالب على التعليم الفرنسي الأدب، والغالب على التعليم الأمريكي العلم. واللبنانيون كانوا يومئذ يتهيئون للعمل الحر في خارج لبنان؛ لأن النصارى في سورية كانوا كالشيعة في العراق لم يكن لهم في حكومة الترك مكان. والعمل الحر كان في التعليم، أو في الصحافة، أو في الترجمة، أو في التمثيل، أو في التجارة، وكلها أعمال تقتضي التبريز في اللغات والتبسط في الآداب. لذلك لم يكد الجميل يتخرج في الكلية اليسوعية حتى عين معلما في مدرسة القديس يوسف،

<<  <  ج:
ص:  >  >>