للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن ميله إلى الكتابة واستعداده للتحرير، ساعد على اختياره محررا لجريدة (البشير) سنة ١٩٠٨، وقد كان يصدرها الآباء اليسوعيون في بيروت، ويجعلون إدارتها لأب من صالحي الآباء، وتحريرها لأديب من نوابغ الأدباء. ثم دعاه إلى الهجرة ما دعا أحرار لبنان من ضيق العيش وسعة الأمل وفساد الحكم، فهاجر إلى مصر سنة ١٩٠٩ وحرر في صحيفة الأهرام الفرنسية. ثم أعلنت وزارة المالية المصرية سنة ١٩١٠ عن حاجتها إلى مترجم فتقدم إلى المسابقة في هذه الوظيفة ففاز بها. ولكنه لم يقطع صلته بالصحافة فأصدر في تلك السنة نفسها مجلة الزهور أدبية شهرية. واتصلت منذ يومئذ أسبابه بالحكومة ورجال الحكم. وكان الجميل على طبيعة قومه عمولا لا يدخر جهدا ولا يضيع فرصة ولا يستوطئ راحة، فبان شأوه على أقرانه، ودل فضله على كفايته، فترقى في المناصب حتى عين سكرتيرا للجنة المالية. ثم اعتزل العمل الحكومي ليتولى رياسة تحرير الأهرام، فسطع مجده، وضخم أمره، وانبسط نفوذه، واضطرب في مجال الحياة المصرية السياسية والاجتماعية والأدبية اضطرابا عجيبا، ينبه ويوجه ويوفق ويشارك. عمل في مجلس الشيوخ، وفي مجمع فؤاد، وفي جمعيات البر، وفي جماعات الأدب، وفي شعب الثقافة، وفي لجان الاقتصاد فلم تكن عضويته فيها جميعا مظهرا من مظاهر الفخر، ولا موردا من موارد المنفعة، وإنما كانت هما من هموم الجد يستفرغ الوسع فيه، ويتوخى النجاح له، ويدفع العوائق عنه. وكان الرجل على حظ عظيم من الخلق الكريم والطبع المهذب والحلم الراجح، فساعدته هذه المزايا على أن يكون له في المجتمع هذه المكانة وفي العمل هذا البروز. كان أديب النفس واللسان والقلم، فلم تكن لنفسه جلافة تنفر، ولا للسانه بادرة تخشى، ولا لقلمه سن يخز. وكان مرهف القلب والعقل والذوق، فكان يشعر بقوة، ويفهم بزكاته، ويذوق بلذة. وكان دقيق العمل والوقت والأسلوب، فلا يقدر بالقيس الجزاف، ولا يوقت بالزمن المبهم، ولا يعبر باللفظ المقارب؛ إنما كان يتبين الغرض ثم يرميه بالذهن النافذ واللفظ المحكم فلا يخطئه. ولعل كلماته السياسية في الأهرام كانت على وجازتها أدل كلامه على خلقه وأدبه. كان يعالج مشكلات السياسة والحكم بأسلوب فيه صراحة الجبليين وكياسة اليسوعيين ونعومة الفرنسيين، فيكشف عن المخبأ من غير فضيحة، ويدل على الفساد من غير اتهام، ويوجه إلى السداد من غير استطالة. وهذا الأسلوب وما كان يقويه

<<  <  ج:
ص:  >  >>