النهار في المستشفى، وتطوي هزيعا من الليل في العيادة يخلبك بهرج المال ويجذبك لألاء الغنى. والطبيب ساحر يعصر دماء المرضى فتتدفق في جيبه سيلا من الذهب.
ثم حالت حالك؛ فأنت لا تدخل الدار إلا ثائرا تضطرم، ولا تحدث أهلك إلا غاضبا تحتدم، تفزع عن زوجك في غير رحمة وتهر في أبنائك في غير شفقة. وتفتحت عيناك على أشياء كنت - من قبل - في عمى عنها؛ فأنت لا ترى في الدار إلا القاذورات تتناثر هنا وهنالك فتبعث فيك الاشمئزاز، وإلا رائحة النتن تفوح من نواحيها فتتقزز لها نفسك وإلا التشعث يملأ أرجاءها فينفذ فيك الثورة والاضطراب، ثم لا تسد أنت الثغرة في رفق ولا ترأب الصدع في دين.
ليت شعري، ماذا دهاك فطم على رجولتك فما عدت تسمع كلمات أبيك الشيخ تدوي في مسمعيك وإن فيها نور السماء يتألق على لسان ملك!
لقد عشت زمانا ترى في عيادتك القد الأهيف والكشح الهضيم والثوب الهفهاف، وتحس الابتسامة الرقراقة والخد الأسيل والشعر السبط، وتتنشق شذى العطر الجذاب؛ على حين لا ترى في دارك سوى زوجة بلهاء في ثوبها الأبيض الفضفاض تنتحي ناحية من حجرة وتنطوي على أورادها تتلوها في حركة رتيبة يملها القلب وتضيق بها النفس.
وراح عقلك الكبير يقارن بين الفتاة التي ترى في الشارع وفي العيادة وبين زوجك الريفية الجاهلة، فسيطر عليك الأسى واستولى النفور على قلبك، ونسيت يوم أن كنت فتى في العشرين من عمرك. . .، فما استطعت أن تكتم نوازع نفسك فجلست إلى صديق لك تبثه لواعج الفؤاد ولوعة النفس فقال لك (لا بأس عليك! إن في الأرض مراغما كثيرا وسعة) فقلت له (وماذا تعني؟) قال (أتزوج من ابنة فلان باشا، وهي فتاة في روعة الجمال وأبهة العظمة وسمو الجاه ومنتهى الثراء، تتوثب شبابا وظرفا وتتألق أناقة ورقة، فيها ثقافة الشرق وتربية الغرب، تتحدث في طلاقة وتأسر في لباقة) قلت في دهشة (وابنة خالي، ابنة خالي؟) قال الرجل (ابنة خالك؟ تذرها في بيتها بين بنيها وأورادها. . . إنها لم تجد فقدك فهي في شغل عنك وإن لك من ثرائك ما يكفل لها عيشة راضية وحياة طيبة) قلت (ولكنها هي. . . هي ربة نعمتي!) قال (هذا حديث لفته السنون في ملاءة النسيان!) قلت (وأنا؟. . . لقد قاربت الأربعين) قال (هذا وهم باطل فأنت ما تزال في ربيع العمر تفور نضارة