يجعل لأحد منهم خصيصة تميزه في فكره أو في أسلوبه، ولا يجعل لأحد منهم مسلكا سلكه رائداً أو سار فيه مقلداً. بل لم يكن الطالب يعرف أي هذه الأسماء جاء أولا، وأيها جاء أخيراً، ولا أيها الذي ابتدع فكان له فضل السبق إلى الطريق وأيها الذي اتبع وتفنن فكان له فضل التهذيب والإبداع والتمام؟!
فكان للزيات فضل السبق إلى تأليف كتاب جديد في الأدب العربي سار فيه على نهج واضح، فبين معنى الأدب ومناهجه ومدارسه وتحدث فيه عن كل كاتب وكل شاعر حديثاً طريفاً يصوره فيه تصوير الأحياء الذين عاشوا على هذه الأرض وأصابوا من ضعف البشر وقوتهم ومن سموهم وإسفافهم.
ولست أنسى ساعة دفعني إعجابي بذلك الكتاب إلى أن تحدثت عنه في حماسة الشباب على مسمع من بعض الزملاء، فحسب أحدهم - عفا الله عنه - أنني أقصد التعريض به وأكيل المدح لصديقي لكي أغيظ به لا لكي أعبر عن رأي خالص، فهبت علي منه عاصفة شديدة من الحنق كانت بمثابة احتفال رائع بميلاد ذلك الكتاب الجديد.
وقد مضى الأستاذ الزيات في سبيله بعد ذلك يؤلف في الأدب والنقد، وكان له أثره المشكور في توجيه دراسة الأدب، وفي مقاييس النقد، ومؤلفاته في هذا الباب غنية عن أن أعيد ذكرها في هذا المقام.
ولكن جهاده في خدمة اللغة العربية من هذا الوجه لم يكن كل جهاده الأدبي، بل لقد أحسب أنه لم يكن الجانب الأكبر من نشاطه، فهو مترجم القصتين الخالدتين:(آلام فرتر) و (رفائيل)، والأولى للأديب الألماني العظيم جوت، والثانية للأديب الفرنسي الكبير لامارتين. ثم هو صاحب القلم الدائب الذي يمتاز بالتجويد وحسن البيان يختص به صحيفة (الرسالة) منذ نشأتها سبعة عشر عاماً من عمرها الطويل إن شاء الله.
فإذا كنا اليوم نرى في بلادنا حركة أدبية نامية، ومواهب فنية تتطلع إلى الكمال وتسير نحوه قدماً، فما ذلك إلا من آثار جهاد هذا الجيل العامل - جهاد الأستاذ الزيات وصحبه الذين شقوا سبيلهم ما بين الصخور الوعرة والصحاري المجدبة، وأسالوا عصارة قلوبهم ليحيلوا الوعر المجدب إلى خصوبة وارفة الظلال، وليهيئوا للمستقبل آفاقاً جديدة أرفق جواً وأعذب مورداً.