حواسه وملكاته من التأثر والانفعال نفس الصورة التي أخذتها حواس المؤلف وملكاته إن صح هذا التعبير. والثاني يحاول المترجم الإعراب عن هذه الصورة والإفصاح عن دقائقها وخفاياها بأشد الألفاظ تمثيلا لها وأوضحها دلالة عليها.
وخلاصة القول أن المترجم يجب أن يجتهد ما استطاع لا أن ينقل إلينا معنى الألفاظ التي خطتها يد المؤلف بل في أن ينقل إلينا نفس المؤلف جلية واضحة تتبين فيها من غير مشقة ولا عناء ما أثر فيها من ضروب الإحساس والشعور).
وقد وفى الأستاذ الزيات حق الترجمة بما لا مطمع بعده لمستزيد؛ فكانت عنايته باللفظ ودقة أدائه، لا يعدلهما إلا عنايته بالتركيب وبلاغة تعبيره.
وهو ممن يعرفون للألفاظ حقها. وقد بين رأيه في هذا الأمر بياناً وافياً في كتابه (دفاع عن البلاغة) إذ قال:
(وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر عليها اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة.
وللكلمات أرواح كما قال موباسان وأكثر القراء، وإن شئت فقل أكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها وهندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد إليها الحياة وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعةوالوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة؛ وذلك في الجهاد الفني غير قليل).
ولا شك في أن الأستاذ قد أصاب في هذا القول لب الحقيقة ووضع به أول حد للبلاغة.
وإذا كنت أحب أن أضيف إلى هذا القول شيئاً فذلك أن أخلص منه إلى نتيجة. فاللفظ كما قال لا يزيد على أن يكون جماداً ما بقي في المعجم، ولن تدب فيه الحياة إلا إذا وضع في موضعه من العبارة فأدى المعنى الذي يقصده الكاتب منه. ولن يستطيع كاتب أن يقحم لفظاً على غير المعنى الذي تعود أن يمثله. بل أنه لن يستطيع أن يعيد الحياة إلى لفظ إلا إذا