كان قد اتخذ من قبل صورة بعد صورة جعلته أهلا لأنيعبر عن المعنى الذي يريده الكاتب. فالاستعمال يخلع على الألفاظ هالة من المعاني التي لا تستطيع المعاجم أن تصورها، وبراعة الكاتب إنما تظهر في ترويض اللفظ حتى يلقي على العبارة كل ظلال معناه فيمكنه من إثارة الشعور الذي يريد إثارته في نفوس القراء إذا ما أدركته الأبصار ووعته الأسماع.
ومن الألفاظ طائفة تقبع جامدة بين صفحات المعاجم قد حاول اللغويون أن يحددوا المعاني التي فهموها منها إذ كانت حية تؤدي واجبها في التعبير والبيان. ولكنها بقيت هناك دفينة مدة عصور طويلة لم تنبعث فيها الحياة في كتاب ولم يستخدمها أحد في بيان معنى من معاني الحياة. فمن عمد إلى إعادة الحياة إلى هذه الألفاظ لم يأمن أن يقحمها في غير مادتها فتبقى جامدة ميتة لا تبعث في أحد معنى ولا شعوراً.
فأجد الألفاظ بالتعبير الصحيح الفني هي أقربها إلى الحياة في استعمال أهل هذه الحياة.
ومن الكتاب من يذهب إلى أن من الألفاظ ما هو شريف ومنها ما هو مبتذل.
ولا شك في أن هذا صحيح من وجه واحد، فالسر في شرف الألفاظ أو ابتذالها ما هو إلا تاريخ حياتها السابقة وما خلعه عليها الاستعمال من ظلال المعاني في التراكيب التي استخدمت فيها والصور التي اختصت بأدائها.
ولكن الشرف لا يقوم باللفظ من أجل غرابته أو ضخامة جرسه؛ فما ذلك سوى شرف زائف يشبه شرف السوقي الذي يعمد إلى غرائب الثياب ليخلع على صورته ما يجذب إليه الأنظار. فمن الألفاظ ما يعده بعض الكتاب كريما فإذا عمدوا إلى استخدامه في بيانهم بقي في عزلة لا يؤدي المعنى المقصود منه أو يبقى نافراً شامساً يضيع جهد الكاتب هباء.
والأديب إذا كان صادق الحس ممتلئ القلب من المعنى الذي يريد أن يعبر عنه لا يستخدم في عبارته لفظاً إلا وهو يقصد من ورائه صورة.
وليس من السهل على المقلد أن يخلع على أسلوبه الجلال بأن يستعير ذلك اللفظ في عبارته، بل أن ذلك يعرضهلأنيخطئ البيان إذا لم يكن في اختياره للفظ منبعثاً عن إحساس صادق يهديه سبيله. ففي هذا الإحساس وصدق التعبير عنه يكمن الإعجاز في الأداء الفني. هذا الإحساس الصادق هو الذي هدى شوقي إلى تعبيره الرائع إذ قال: