للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فهذا البيت وإن كان يفيد في جملته أن الحياة الإنسانية زائلة فانية يحمل فوق ذلك فيضاً من الأحاسيس الدقيقة التي تدرك من ظلال المعنى. فدقات قلب المرء لا تكون إلا مع العاطفة المشبوبة والأشجان الثائرة. ووحي الشاعر يحمله في سرعة البرق إلى تأمل بطلان الحزن وإلى أن كل شيء زائل حتى هذه الآلام الشديدة التي تنزلها الكوارث الفادحة، والحزن وإن كان شديداً عند فقد الأحبة يحمل معه خاطرة أخرى أكثر تحريكا للقلب من الحزن نفسه، وذلك أن كل شيء فإن، وأن الوجود دائب على تقريب الإنسان من الفناء لحظة بعد لحظة في غير توقف ولا هوادة.

وقال شاعر آخر:

وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاً منك يلقي خياليا

وأخرج من بين الجلوس لعلني ... أحدث عنك النفس بالليل خاليا

فما بين هذه الألفاظ هالات مختلفة من المعاني وهي سر ما تحدثه من الأثر في النفوس. فهذا المحب يستغشي وليس به نوم؛ وهو يخرج من بين الجلوس فجاءة كما يفعل من كان مضطرب الخاطر لا يأنس إلى المجامع الصاخبة؛ وهو يطلب خيال الحبيبة ليلقى خياله؛ وهو يحدث نفسه إذا ما خلا إليها - أليست هذه صورة رجل قد سلب لبه واختل عقله ونسي كل شيء في الحياة إلا صورة الحبيبة التي استولت على فؤاده؟ فهو لا يخبر الناس بحقيقة يريد أن يطلعهم عليها، بل يرسم صورة لما أصابه من الاضطراب والقلق والخيل.

ولأضرب مثلاً قصيراً آخر للدلالة على أن شرف الألفاظ كامن في ظلال معانيها، وأن هذه الظلال لا يستطاع نقلها في تعسف من عبارة إلى أخرى.

قال الأبيرد اليربرعي في رثاء صديق اسمه (بُريد):

أحقاً عباد الله أن لست لاقياً ... بريداً طوال الدهر ما لألأ العفر

فهو يسأل في لهفة أحقاً لن يرى صديقه مرة أخرى وأنه سوف يقضي سائر أيامه وحيداً محروماً من صحبته وإيناسه. ولكنه لا يقول في ذلك أنه لن يراه ما طلعت الشمس ولا ما هبت الريح ولا ما انعقد السامر في الحي، بل يقول أنه لن يراه طوال الدهر ما لألأت الظباء العفر بأذنابها. فأين وجه البلاغة هناك؟ أليس ذلك أنه كلما تذكر صديقه عادت إليه ذكرى ساعات المتعة الصريحة القوية التي كان يحسها في صحبته إذ يخرجان معاً إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>