لعل القارئ يتساءل الآن عن مقياس الرسم للخريطة الأدريسية، وهنا أقول إن مقياس الرسم بالمعنى الحديث الذي نعرفه والذي بمساعدته يستطيع الإنسان أن يعرف مساحة جهة من الجهات بقياس مساحتها فوق الخريطة، مقياس الرسم بهذا المعنى لا نجده في خريطة الإدريسي، وهو طبعاً لم يوجد في جميع الخرائط القديمة، وإنما وجد بعد وضع خريطتنا بمئات السنين. على أن الإدريسي قد أشار إلى طريق الوصول إلى معرفة مثل هذا المقياس الحديث. الإدريسي ذكر درجات العرض وقدر الدرجة بخمسة وعشرين فرسخاً، والفرسخ بثلاثة أميال، وعليه فالدرجة ٧٥ ميلاً، ولكن الذي لم يذكر قدره الإدريسي هو الميل، فان قدرنا الميل بما كان معروفا عند الروم وهو كيلو متر ونصف تكون الدرجة مقدرة عنده بـ ١١٢. ٥ كيلو متر، وبهذا يكون الإدريسي أعطانا مقياس الرسم لخريطته بشكل واضح.
في الختام أريد أن أذكر لحضرات القراء بعض المميزات التي تزيد في قيمة الخريطة الإدريسية، وقيمة شرحها نزهة المشتاق:
(١) تجنب الإدريسي ذكر الخرافات التي كانت شائعة في العصر المتوسط، والتي تورط في ذكرها غيره من المؤلفين. ولقد كان من حنكته أنه إذا ذكر شيئاً خارجا عن حدود العادة نسبة إلى ناقله، ثم أعقبه بكلمة احتياط كقوله: والقادر على كل شيء أعلم بما في هذا من الحقيقة. ولم يرسم ما كان شائعاً رسمه عند علماء الجغرافية مما يمثل الغرائب الخرافية، وطبعاً كان لتعاليم الإسلام الفضل الأكبر في هذا.
(٢) انفردت خريطة الإدريسي بأنها هي الخريطة الوحيدة التي تعطينا صورة صحيحة عن البلاد الواقعة حول البحر القزويني وصحراء العجم في مدة من الزمن تبلغ نحو قرن، هذه المدة التي لولا خريطة الإدريسي لظلت حلقة مفقودة في تاريخ هذه البلاد.
(٣) إن خريطة الإدريسي وحدها هي التي مثلت لنا دولة الإسلام العربية وهي في عصرها الذهبي، تلك الدولة التي كان حظها حظ المائدة الفضية التي علم خبرها والتي قضى عليها في وقت وجيز على يد التتار والمغول. فما لم تصل إليه يد جنكيز خان بالتدمير من المدن الغربية وحضارتها إلى عام ١٢١٩ ميلادية صعقته يد هولاكو التتري يوم ضرب العواصم الإسلامية، وترك جنوده يعيثون في بغداد فساداً في فبراير سنة ١٢٥٨ سبعة أيام كاملة،