والنجف، تنتج الخام ولا تصنع، وتشحذ السلاح ولا تقطع، فلم يكن لها في ذلك العهد الغابر أدب غير أدب الشواهد، ولا أسلوب غير أسلوب الحواشي. . . ولكن الحق أن المدرسة اللبنانية كانت عملية تقدمية حرة، واكبت الزمن في السير، وطلبت العلم للعمل، وسخرت الأدب للحياة، ونظرت إلى اللغة نظر الوارث إلى ما ورث، يملك عليه بمقتضى الشريعة والطبيعة حق الانتفاع به على الوضع الذي يريد، وحق التصرف فيه على الوجه الذي يحب. . . والمتتبع لتطور المدرستين يرى أن كلتيهما قد مرت في أطوار ثلاثة: طور التقيد والمحاكاة، وطور التحرُّر والاعتدال، ثم طور التمرُّد والانطلاق. ولكن الانتقال من طور إلى طور كان في مصر متثاقلاً متداخلاً، يرود قبل النجعة، ويحوم قبل الوقوع، على حين كان في لبنان متسرعاً لا يتأنى، مصمماً لا ينخزل. فبينما نجد مراشا الحلبي في (مشهد الأحوال) يقلد ابن حبيب الحلبي في (نسيم الصبا) وناصيفاً اليازجي في (مجمع البحرين) يُقلد الحريري في (المقامات)، وإبراهيم اليازجي في (لغة الجرائد) ينهج نهج الحريري في (درة الغواص) إذ نجد آل البستاني وآل الحداد وزيدان ومطران والخوري والجميل وملاط يتوخون السهولة والابتكار والطرافة، والجبرانيين والمهجريين يجنحون إلى الأصالة والإبداع والتطرف، والزمن بين هؤلاء وأولئك متقارب، والعوامل المؤثرة فيهم لا تكاد تختلف). . .
هذه فقرات يضيق المقام عن أن أنقل إليك من نظائرها الكثير، ولكنها تغني عن هذا الكثير لأنها تقدم إليك مفتاح الشخصية الأدبية في كلمات، ورب لمحة تغني في مجال التقديم عن لمحات. . . أما فضل الرجل على اللغة والأدب وأثره في توجيه الجيل، فقد كشف عن هاتين الناحيتين الأستاذ فريد أبو حديد بك في كلمته القيمة الصادقة التي ألقاها في المجمع ونشرتها الرسالة! بقي أن أقول كلمة عن ناحية أخرى من نواحي الزيات الأدبية، وهي ناحية عرض لها الأستاذ فريد أبو حديد بك في خطبته حين تحدث عن قصتي جوته ولامرتين. . . كلمة عن قلم الزيات حين يترجم آثار الفن من لغة إلى لغة، ومن ذوق إلى ذوق، ومن أدب إلى أدب؛ هناك في (آلام فرتر) و (رفائيل) و (من الأدب الفرنسي) ثلاثة كتب لو قرأتها دون أن ترجع إلى أصولها الفرنسية لتبادر إلى ذهنك ووقع في ظنك أن الزيات يضحي بأمانة النقل في سبيل رشاقة اللفظ وموسيقى العبارة. أشهد لقد خطر لي هذا