للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ترتاح لأشياء وتشمئز من أشياء أخرى!

وأخذت أنظر إلى ما يحيطني. وأتأمل فيما يدور حولي. فلم أجد ثمة شيئاً غير مألوف، فالأثاث بسيط يغلب عليه القدم. والستائر من حرير شرقي ناعم. وفي صدر الغرفة، في مواجهتي صورة لامرأة متوسطة الحجم، يظهر منها الرأس والقسم الأعلى من الجسد. . . وبيدها كتاب.

كانت المرأة في مقتبل العمر حاسرة الرأس. وكان شعرها الناعم مرتباً في بساطة، يبدو على شفتيها طيف ابتسامة حزينة كئيبة. والصورة طبيعية لا أثر للتكلف والتصنع فيها.

إن ما رأيته من صور قبل الآن، كانت البهرجة تغلب عليها بوضوح، حلى، وجواهر، ولباس أنيق، وشعر مضفور في عناية. فكانت تلك الصور تشعرني لأول وهلة، أن صاحب الصورة قد تصنع كل ذلك التصنع لأنه كان يعلم سلفاً بأنه جالس أمام المصور. . . وإنه يريد أن يرضي أحبابه وأصدقاءه الذين سيرون صورته. لذلك كرهت تلك الصور البعيدة عن الواقع، الشديدة التكلف والتصنع. . . أما هذه الصورة، فإنا أعجز عن وصفها. ولا أحس بالخجل إذا قلت بأنني أعجز عن التعبير شعوري تجاهها.

كانت مثبتة في مكان بارز، منعزلة، تبتسم ابتسامة باهتة يشوبها الحزن، ويخالطها الأسى. تماماً كما يبتسم بعض الناس حين يختلون بأنفسهم، ويتذكرون ما مضى من حياتهم. فيبتسمون، يبتسمون لأنفسهم حتى إذا كانت تلك الذكريات مرة وحزينة!

كانت منفردة في مكانها، غير شاعرة بهذه الأشياء التي تحيط بها. وهذه الصورة قد خلقت في الغرفة جواً ساكناً، يشيع فيه الهدوء. . . هذه الصورة هي الشيء الوحيد الذي يبعن الحياة في هذه الغرفة!

من الممكن أن يقتحم هذه الغرفة جمع غفير من الناس يضحكون فيها ويعبثون، يشربون ويفنون، ولكنهم لن يستطيعوا أن يبعثوا هذه الحياة التي بعثتها الصورة نفسها!

وبدت لي نظراتها غريبة. . . بدت لي مصوبة نحوي. إن كل الصور تقابلك نظراتها، أما هذه الصورة فإنها لا تراني وإن كانت مصوبة نحوي بالضبط كما أنها لا تستطيع أن ترى شيئاً آخر أبداً. هي نظرات شاردة، تنظر ولا ترى، مما ذكرني بقول الشاعر يودكيرز (آه من نظراتك. . . إنهن يجذبنني كما تجذبنني نظرات الصور!).

<<  <  ج:
ص:  >  >>