للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتعدد طبعاتها. . .

وإذا ما نظرنا في الأدب العربي، فأول ما يسترعي انتباهنا في روحه ذلك الاتصال المباشر الدقيق بأعماق النفس الإنسانية على وجه العموم، بحيث أنه وصفها وحللها وتواجد معها، ونبض بمعانيها على اختلافها وتنوعها من سمو وضعة، ومن قوة وضعف. ويبرز أمامنا في هذا المعنى شعر عمر بن أبي ربيعة الذي عبر أصدق تعبير عن نفسية الإنسان في غرامه وفي فهمه لعقلية النساء. وإن أنس لا أنس داليته المشهورة التي قالها في محبوبته (هند)، حيث يصور لنا مشهداً فريداً في نوعه، ويعطينا وصفاً طريفاً لأحاديث النساء فيما بينهن، بحيث يخلص منه إلى إبراز الغيرة التي تخالج نفس المرأة أياً كان لونها أو زمنها، لنصغ إليه إذ يقول:

زعموها سألت جاراتها ... وتعرت ذات يوم تبترد:

أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله لمْ لا يقتصد؟

فتضاحكن وقد قلن لها: ... حسن في كل عين من تود

حسداً حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد

ونستطيع أن تبين اوجه الشبه القوي في هذه الخاصة بين ابن أبي ربيعه و (راسين) في الأدب الفرنسي، أو (الفرد دو موسيه) كذلك، بل أن ابن أبي ربيعه بلغ من إتقانه تصوير النفس البشرية حداً جعله يستعمل أبسط الألفاظ وأقربها إلى العامية أحيانا لأجل تأدية المعاني الدقيقة.

ويشارك ابن أبي ربيعه في هذه الميزة أبو نواس، ذلك الشاعر العالمي النادر المثال الذي لم يدع حالة من أحوال اللهو والمجون إلا وصفها وصفاً صريحاً كشف عن أدق النزعات والنزوات التي تخامر نفس الإنسان ويكبتها أو يحجبها عن المجتمع.

وخاصة ثانية ارتقى بفضلها الشعراء العرب إلى مرتبة الشعراء العالميين، تلك هي إحساس الطبيعة، أو قل تعشق الطبيعة، والتواجد معها، وتقديس جمالها والافتنان بتصويره. فابن الرومي، ذلك الفنان المتيم بالألوان، والبحتري يستويان في هذا الباب في مرتبة (لامرتين) و (شاتوبريان) و (فيكتور هوجو).

وأما شعراء الأندلس، فلا تسل عن الشأو الرفيع الذي بلغوه في هذا التواجد الإنساني، الذي

<<  <  ج:
ص:  >  >>