فهذه صورة دقيقة، تشتمل على حال أبي نواس كأنك تراه، وتمثل أمامك (دير حنة) بغزلانه ورهبانه تمثيلا رائعاً كله براعة وقوة، والواقع أن ابن شهيد لم يستمد هذه الصورة من خياله، ولكنه صورها من الواقع، ونقلها كما رأى وأبصر، فقد كان هذا الرجل ولوعاً بالتردد على كنائس النصارى في قرطبة لا يتحرج من المبيت فيها مع الرهبان، يرشف الكأس، ويبهج النفس، ومن ذلك (أنه بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة، وقد فرشت بأضغاث آس، وعرشت بسرور وائتناس، وقرع النواقيس يبهج سمعه، وبرق الحميا يسرج لمعه، والقسّ قد برز في عبدة المسيح، متوشحاً بالزنانيير أبدع توشيح، قد هجروا الأفراح، واطرحوا النعم كل إطراح:
لا يعمدون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافا من الغدران بالراح
وأقام بينهم يرشق حميا، كأنما يرشف من شفة لميا، وهي تنفح له بأطيب عرف، كلما رشف أعذب رشف، ثم ارتجل في وصف ذلك هذه الخمرية، التي قرع ببعضها سمع أبي نواس، فتنبه من حبائل نشوته، وصحا من سكرته!!
وابن شهيد يذكر أنه تقابل في طريقه بصاحب البحتري بعد أن قد أنسيه مع أنه من أساتيذه. ويذكر أنه أجازه فخذله حتى لقد هرب بخزي (وكر راجعاً إلى الوراء دون أن يسلم) وهذه شنشنة ابن شهيد مع كثير من الشعراء والكتاب، خصوصاً شعراء المشارقة وكتابهم، فهو يحدّث أنه التقى (بزبدة الحقب) تابع بديع الزمان، وبعد أن تمَّ التعارف بينمها، طلب منه ابن شهيد أن يجري على سمعه وصفه للماء، فتطاول زبدة بذلك الوصف، وقال إنه من العقم بحيث لا يبلغه أديب، ثم انطلق يقول، (أزرق كعين السنور، صاف كقضيب البلور، انتخب من الفرات، واستعمل بعد البيات، فكان كلسان الشعمة، في صفاء الدمعة) فعارضه ابن شهيد فقال (انظر يا سيدي كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، ينصب من إنائه، انصباب الكوكب الدريّ من سمائه، كأنه خيط من غزل فلق، أو مخصرة ضربت من ورق، يرفع عنك فتردى، ويصدع به قلبك فتحيا) فلما سمع ذلك زبدة غار في الأرض، وهو مبهوت خجل!!
وقد حسب الدكتور زكي مبارك ذلك غروراً من ابن شهيد وعَذَره في هذا الغرور نظراً